في متاهة البرمجة المجتمعية
بين التجذر في الماضي بعاداته وتقاليده والتطلع نحو المستقبل ووعوده، تكون أنت كفرد مؤثر ومثأثر بما كتب في جدار الوقت والتاريخ وتمت صياغته كبرمجة واحدة وموحدة، تحوي قناعات، وأفكار وأنماط عيش متشابهة وطموحات متشابهة أيضا. الكل يتطلع لشهادة دراسية، وظيفة بدوام كامل، قرض بنكي بسعر الفائدة وتقدير خارجي واعتراف مجتمعي وفقا لما هو عليه وما أنجزه وما حصل عليه بالكم والكيف.
وفقا لبرونفن برينر الطبيب النفسي والباحث الأمريكي من أصول روسية، صاحب نظرية النموذج البيئي الحيوي، فالصلات التاريخية والثقافية أمر أساسي لشعورنا بذاتنا وطرق تواجدنا في هذا العالم. معبرا عن ذلك من خلال ما يسمى بنموذج النظم البيئية الذي يعبر في بدايته عن الفرد بسماته وخصائصه وصولا إلى أعلى المستوى الذي يشير إلى التوجهات التي تتم ملاحظتها مباشرة من مبادئ وإيديولوجيات وأنساق وتناقضات.
بمعنى آخر، أن وعي كل فرد هو عبارة عن برمجة متوارثة مكونة من عناصر متداخلة تؤثر على تكوينه وشخصيته، هذا ما قاد في نهاية المطاف إلى صناعة نسخ متكررة مرتبطة بأنظمة دينية تجعل من الدين مطية لممارسة عقدها فيه وأخرى سياسية واجتماعية تأتي بدوائر شعثاء قبلية ووطنية وأممية ممزوجة بتشكيلة مركبة من تأنيب وترهيب.
لا يتوقف دور الماتريكيس على برمجة الشعوب وتلقينهم نفس الدروس والأفكار لخدمة المصلحة العامة، بل يتعدى ذلك ويخطط إلى حفر قناعات تعيق من تقدمهم وتقلص من احتمالية تغريدهم خارج سرب الضباء.
إذا سألتك مثلا من أنت؟ من تكون؟ من كنت؟ إلى أين تتجه؟ وماذا عن كل ما تستمر في أن تكونه؟ هل تعرف ماذا تريد؟ هل تعرف أنك خالق تجربتك؟ هل تستمتع بتمدد رغباتك؟ هل تشعر بالانتعاش عندما تنبض رغبة جديدة فيك؟
إذا أجبت بنعم عن أغلب هذه الأسئلة، فبشرى لك، أنت محظوظ حقا، وأنت تعرف الهدية التي يقدمها لك هذا الاختيار كل يوم
رغم صعوبته وشدة المنحدرات فيه، غير أنه أكثر خيار مسؤول يقود صاحبه نحو اكتشاف أسرار ومعجزات التجسد العظيم لروحه في هذه التجربة الأرضية.
ولأن الوقوف في الطابور والمشي بين الجموع وأن تكون نسخة متكررة هو السبات الآمن والطريق السهل ووجهته واضحة وقصته مصادق عليها من طرف الجميع. وكثيرا ما يحدث أن تتلقى برقية الرسالة لكنك لا تفتحها، الكون يستمر دائما في مخاطبتك لتعود أدراجك وتتأمل القصة كاملة، لكن الزخم الذي تعيش فيه وهرولتك المستمرة خلف المشاغل المادية والالتزامات الزائفة منتظرا الويكاند لتتنفس الصعداء، عمل يسحب من طاقتك سحبا، شريك لا تتشارك وإياه لا أعلى القيم في مصفوفتك ولا أدناها حتى، وأنماط الاستهلاك المزمن الذي يجعلك تقترض قبل العشر الأواخر من كل شهر، كلها تقودك تدريجيا نحو الهلاك أو بالأحرى نحو حتفك وموتك البطيء.
يقول الدكتور صلاح الراشد، أحد عباقرة علم النفس بالعالم العربي: من لا يخطط لحياته فهو تلقائيا ضمن مخططات القوى الظلامية التي تكافح من أجل إدخالك في صندوق البرمجات الإدمانية الروتينية. هكذا هي تعرف عنك ما لا تعرفه أنت عن نفسك، وتظل تتحكم في أنماط تفكيرك وحفر كل المعتقدات التي تخدم استمراريتها باللاوعي لديك. ولأنه من العدالة الإلهية أن تتلقى الدعم الكوني في أي من الخيارين لأنك في الأخير أنت نتيجة ما تركز عليه.
إن الروح مصرة دائما على العظمة والاستيقاظ والاكتشاف والحرية في جميع الاختيارات؛ فالحرية المطلقة هي إحدى أسس تجربتنا على البسيطة وبها نستطيع التفوق على أنفسنا مثل الزهور التي تبرز من التربة ساعية إلى النور. وفي محاولاتك للتأقلم فأنت تتنازل بجهل عن هذا المكون الأساسي الأهم ألا وهو حريتك التامة في الخلق والإبداع.
ليس المهم أن نختلف عن البرمجة المجتمعية من أجل الاختلاف، ولكن المهم الانتباه إلى الأفكار القائدة طوال الوقت، التي تجعلنا ننسى من نحن ولماذا جئنا؟ ما هي الرسالة الملزمين بتأديتها؟ هل تنحصر يا ترى على عمليات الإدخال والإخراج والسباق المتسارع نحو التسلح بما وجدنا عليه أباءنا من أعراف وأنماط دينية وثقافية واجتماعية؟ أم أن الأمر يتعدى ذلك ليكون من أجل الخلق والتأثير والتفرد عند كل شخص ببصمته الخاصة؟
ربما حان وقت المراجعة، أن نبتعد قليلا وننزوي بأنفسنا ونزكيها، حان وقت الانفصال عن الأدوار النمطية ونكون المتحكمين في خياراتنا لنتجاوز أجسادنا المادية وأنفسنا وأرواحنا وعقولنا حتى، ولنندمج مع حقيقتنا المثلى التي تتحكم في كل أدوارنا الملعوبة.
عندما نسكن تتضح الأمور وعندما نصمت نغوص تلقائيا في دواخلنا حيث يقبع النور المنير، وبهذه الطريقة ينقشع الظلام الكامن في الأعماق والمكون من موروثات مزيفة ومعتقدات لا تخدم مصلحتنا، وإذا كان السؤال أين يوجد هذا النور يا ترى؟
يوجد في الحب الذي تنفقه على نفسك أولا وبعدها على الآخرين، يوجد في العطاء اللامشروط وحب الخير للجميع، في إنفاق الحرية واحترام الناس والسماح لهم بممارسة اختياراتهم كيفما كانت مصادرها، في احتواء الآخر كجزء منك وكانعكاس لك في عوالم أخرى موازية لعالمك، في معرفة أنه كل في مرحلة الوعي التي تخصه والتي تخدم المرحلة التي يقطعها. في عيش اللحظة بدون مقارنات وأحكام لأن الصراع بين النور والظلام، بين الخطأ والصواب، بين النجاح والفشل هو أول حالات الفوضى في الذهن وأنه في الصورة الكبيرة، لا وجود لهذه الأزواج التي تبدو لوهلة أنها نقيضة بعضها، بل هي عملات لوجهة واحدة وهي التطور والتوسع في هذه التجربة.
لهذا فلنحاول دائما أن نكون في حالة محبة وتقبل مع كل ما هو كائن، مهما يكن أو بغض النظر عن الاتجاه الذي يتخذه,