التجربة الكونغولية (الأخيرة): كيف تهدم بلداً وتنهب خيراته؟

إذا أردت أن تهدِم بلاداً، وتنهب خيراته بغير وجه حق، ودون أن تُساءَل عن ذلك ولا يُعترَض عليك فيه، ابدأْ بتجهيل الإنسان، واقطع عنه سبل المعرفة، ليكون خانعا خاضعا مذلولا راضيا، وبعد ذلك افعل ما شئت؛ فكل شيء مباح. تلك هي استراتيجية معظم القوى الاستعمارية في بلاد أفريقيا. فمَـا أن يُحكـِموا السيطرة على البلاد، حتى يبدؤوا مسيرة التمكين للجهل، فإذا ما استحكم في النفوس، أمكنهم بعد ذلك أن يقوموا بأي شيء، وهم في مأمن من أي معارضة أو مقاومة. فانتُهكت حرمة البلاد وانتُـهبت خيراتُها، وفُقِّر أهلها، حتى صار الإنسان الأبيض يتسكع في شوارع بروكسيل، ويخدمه إنسان بئيس في بادية من بوادي لومومباشي أو كينشاسا أو غيرها، ودون أن يتعارض ذلك في المخيال الأوروبي الغربي مع مبادئ العدالة والإنصاف، ومع حقوق الإنسان والأخلاق الطبيعية.

إن ما وصلت إليه الكونغو ليس وليدة صدفة أو مرحلة تاريخية عابرة، إنما هو نتيجة طبيعية لسياسات دامت لعقود من الزمن، ابتدأها الاستعمار، ثم تواصلت من بعده، نتيجة غياب الكفاءات والروح الوطنية. فما لم يَفعله الاستعمار بهذا البلد، قام به أبناؤه من الطبقة الحاكمة التي تعاقبت عليه بعد مرحلة الاستقلال؛ وهو استقلال لا يختلف عن استقلال باقي دول القارة الإفريقية؛ استقلال شكلي، مع بقاء التحكم الأجنبي في القرار الوطني، وفي توجهات البلاد السياسية والاقتصادية.

لا بد أنها مفارقة غريبة، بلد غني وشعب فقير، لكنها ليست مفارقة جديدة، فهي تنطبق على عدة دول في هذه القارة المنهوبة. وشخصيا أذكر أنني قلت هذا الكلام نفسه على دولة غينيا كوناكري في بعض المقالات. فالسيناريو متشابه، ومخرجاته كذلك متشابهة. وهذه المفارقة تبعث على الفضول الإيجابي على البحث والتقصي للوقوف على العوامل التي أدت إلى هذا الوضع. وهو ما حصل بالفعل، فقد قمت ببعض الأبحاث والحديث والنقاش مع مجموعة من الأشخاص هناك في الكونغو، لمحاولة بناء تصور لهذه الوضعية، وكيف نشأت واستقرت بهذا الشكل. وكيف يستطيع الإنسان الكونغولي أن يتعايش بأمان مع حقيقة أن “خيرات بلاده تُنهَب”، وأن بلاده في ظل هذه المعطيات لا أفق ولا أمل يلوح في الأفق للنهوض والإقلاع بها. بل كيف صار الإنسان الكونغولي متطبعا مع الفساد لدرجة أن الفساد أصبح أصلا، وعدمه أصبح مستهجنا مستنكرا.

يمكن الحديث عن الكونغو في مرحلتين تاريخيتين محددتين، تتمثل الأولى في مرحلة الاستعمار البلجيكي لهذا البلد، والمرحلة الثاني تتمثل في توالي الاضطرابات وانعدام السلاسة في انتقال السلطة.

أولا: الاستعمار البلجيكي للكونغو
قبل انتقال الكونغو إلى التبعية الاستعمارية للمملكة البلجيكية، كانت في الأول ملكا خاصا للملك البلجيكي ليوبولد الثاني (1835 ـ 1909)، والذي كان يعربد فيها كيفما شاء. قد يكون عسيرا في التصور كيف أن الكونغو التي هي أكبر من حيث المساحة من بلجيكا بثمانين ضعفا، يستحوذ عليها شخص واحد، ويحولها إلى ضيعة خاصة به ! وتذكر بعض التقارير أنه قتل نصف السكان الأصليين، وأشبع في الباقين تعذيبا وتنكيلا. ولم يكن هذا سرا، فهناك وثائق وصور للكونغوليين الذين كانوا يتعرضون للتعذيب، بعضهم قُطعت أيديهم، وبعضهم قطعت أرجلهم، وشوهت وجوههم. فضلا عن ذلك، كان يستعبد الكثير منهم ويضعهم رهن إشارته، والكثير منهم يسخرهم للعمل عنده. وحين لا تكفيه امواله الخاصة لتنفيذ مشاريعه هناك في الكونغو، كان يقترض الأموال من بلده بلجيكا، خاصة فيما يتعلق بالصناعات الجلدية، والتي أولاها اهتماما خاصا.

ورغم أن انتقال المعلومة كان ضئيلا في ذلك الوقت، إلا أن أفعال الملك البلجيكي في الكونغو كان لها صدى عالمي، بسببه بشاعتها المبالغ فيها، وأثارت بعض الاستهجان حتى في الداخل البلجيكي، وكان ذلك سببا في انتقال ملكية الكونغو من ملكية الملك الخاصة إلى الدولة البلجيكية، وسميت حينها بالكونغو البلجيكية. وتفاديا للصدامات بين الدول الاستعمارية في القارة الأفريقية المستباحة، تم عقد مؤتمر برلين سنة 1884، لتقسيم بلدان القارة على الدول الرأسمالية التوسعية، حيث أخذت فرنسا غرب نهر الكونغو، وكانت تسمى الكونغو الفرنسية، وأخذت بلجيكا ما تبقى منها. واستحدثت أسماء لتلك البلدان بشكل يتناسب مع التقسيم المعتمد، ومن ذلك اسم “غينيا”، التي أطلقها المستعمرون الأوروبية على الجهة الساحلية لغرب إفريقيا، فالبرتغال استحوذت على غينيا بيساو، وفرنسا انفردت بغينيا كوناكري، وإسبانيا استولت على غينيا إكواتوريال “غينيا الاستوائية”
بعد استحواذ الدولة البلجيكية على الكونغو، شرعت في تنصير السكان الأصليين، أحيانا بالإكراه المباشر وأحياناً بإكراه غير مباشر، أي باعتماد سياسة الحرمان والقهر، فمن أراد أن يتعلم أبناؤه في المدارس، ويشتغل ليحصل على قوت يومه من عمل “شريف”، فليس أمامه إلا أن يتنصّر. وبذلك انتشرت المسيحية في الكونغو بشكل كبير، فقدموا لهم الإنجيل مقابل الاستيلاء على الأرض.

وفي سبيل إرساء وجودها على الأراضي الكونغولية، اعتمدت بلجيكا سياسة إعادة البناء الفكري لبعض الكونغوليين بشكل يناسب القيم البلجيكية ويخدم مصلحتها، لإنشاء جيل يتبنى القيم البلجيكية ويشعر أنه محظوظ لأنه يتبنى هذه الأفكار، ممتنا لذلك. وقد أطلق على هؤلاء “المتطورون”. وذلك تحسباً ربما للخروج من البلاد، بحيث حتى لو تم طرد المحتل يوما ما، سيترك خلفه من يُنيبه ويخدم مصالحه، وهي استراتيجية تعمل بها كل الدول الفرانكفونية في سياساتها التوسعية.

وخلال الفترة الممتدة من تسلم الدولة البلجيكية للكونغو من الملك البلجيكي إلى حين استقلالها سنة 1960، كان الوجود البلجيكي في الكونغو مسلسلا متواصلا من النهب لخيرات هذا البلد، وخاصة نهب المعادن النفيسة. ولذلك تجد الكثير من المدن البلجيكية اليوم يزدهر فيها بيع الألماس والذهب لأنهم أخذوا ـ وما زالوا يأخذون ـ الكثير من هذه المعادن النفيسة من الكونغو باعتبارها المصدر الأساس لهذه المعادن. فبخلاف ليوبولد الذي كان مهتما بالصناعات الجلدية، كانت الدولة البلجيكية كانت أكثر نهبا وتركيزا على المعادن والموارد الطبيعية.

وضمن سياساتها لإحكام السيطرة على البلاد، لم تكن بلجيكا تسمح بالاختلاط بين أبناء السكان الأصليين وبين أبناء البعثة البلجيكية والبعثات الأجنبية، مخافةَ أن ينقلوا إليهم بعض قيم التحرر، وتفاديا لأن يتعلموا منهم ما يؤهلهم لمقاومة الاحتلال بشكل منظم، قد يشكل خطرا على الوجود البلجيكي هناك. ولذلك بنت مدارس عصرية خاصة بالبلجيكيين والأجانب، وبقيت هذه السياسة معتمدة لعدة سنوات، ولم يتم التراجع عنها إلا السنوات الأخيرة قبل خروج بلجيكا من الكونغو بقليل.

من بين الشعارات التي ترفعها الدول الاستعمارية لحظةَ استباحتها لبلد ما، هو شعار نشر المعرفة والتحضر، ورغم أن الجميع يعلم أنه شعار كاذب، إلا أنه مع ذلك يحصل بعض التلاقح المعرفي فعلا بين المستعمِر والمستعمَر، وإن بشكل عرَضي غير مقصود، غير أن ما يثير الدهشة في الحالة الكونغولية هو أن بلجيكا في فترة استعمارها للكونغو لم تُكوّن إلا ثلاثين إطارا جامعيا، بالمقارنة مع تكوين سبعمائة قسيس كونغولي، وما بين مائتين ومائتين وخمسين متخرجا من المرحلة الثانوية؛ بحيث خرج الاستعمار ولم يوجد من يخلفه من أهل الكفاءة، فلا أطر عالية، ولا جيش، ولا بنية تحتية، كل ما هنالك نهب شامل للثروات.

ولعل هذا هو طابع عام للاستعمار الفرنكفوني، وهو أنه يعمل دوما على ترك البلد المحتل على حالها من الجهل والتخلف، مخافة المقاولة والانقلاب عليه. وإن كان الأمر يختلف من دولة إلى أخرى. خلافا للاستعمار الإنجليزي الذي يقال أنه أكثر مشاركة للمعرفة مع الدول التي يستعمرها، وإن كان الجميع استعمارا في النهاية، وينطبق عليهم المثل السائر: “ليس في القنافد أملس”.

مقالات مرتبطة

ثانيا: فترة ما بعد الاستقلال
بعد تاريخ طويل من النهب، خرج الاستعمار البلجيكي من الكونغو في 30 يونيو 1960، وتم تنصيب باتريس لومومبا أول رئيس وزراء للحكومة في الكونغو، لكنه كان معاديا لبلجيكا، ولا يُخفي ذلك، مما سيتسبب له في مشاكل كثيرة. كان طموحاً جدا، يساريا ثوريا، رغب في إصلاح الكثير من الأشياء، مناضلا من أجل الكونغو وإبقاء ثرواتها لأهلها. وبسبب هذا الفكر، والروح الإصلاحية، والنزوع إلى تحقيق الاستقلالية لبلاده، كان ذا نزوع تصادمي مع الغرب ومع بلجيكا والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، فبلجيكا كانت تبحث عن شخص يرعى مصالحها هناك في الكونغو، والولايات المتحدة الليبرالية كانت في حالة حرب باردة ضد المعسكر الشرقي، وكانت تبحث عن تكثير الدول التي تواليها في العالم ضد المشروع السووفياتي الاشتراكي. وبحكم يساريته، فباتريس لومومبا كان يميل إلى روسيا أكثر من ميله إلى الغرب، ولذلك كان طبيعيا أن يجد معاداة من طرف الولايات المتحدة.

وفي سبيل إضعاف البلاد، وإدخالها في خندق الاضطرابات الأمنية، تم افتعال فوضى داخلية في البلاد، وعلى إثرها ارتكب لومومبا خطأ فادحا بتعيينه موبوتو سيسي سوكو رئيسا لأركان الجيش، في قصة شبيهة بما حدث في مصر في العشرية الأخيرة. موبوتو كان يطمح إلى حكم البلاد، وكان قد تلقى تكوينا عسكريا، وإن كان ضعيفا، لكنه أفاده في اكتساب حنكة عسكرية، وكان ذكيا، فمال إلى الولايات المتحدة الأمريكية، واستطاع القضاء على هذه الفوضى، ثم انقلبت على باتريس لومومبا، واعتقله وقتله بعد ذلك. وظل رئيسا لأركان الجيش. ومع وجود رئيس ضعيف، كان موبوتو حاكما فعليا للبلاد، مدعوما من طرف الولايات المتحدة والغرب.

وقد قامت ثورات في البلاد، استمرت لمدة أربع سنوات، لكن موبوتو استطاع القضاء عليها في نهاية المطاف، لينقلب على الرئيس الرمزي للبلاد ليعتقله مع مجموعة من الوزراء ومحاكمتهم، وذلك محاولةً منه لإثبات أنه يسير في طريق إصلاحي، ولكي يكسب بعض الدعم الشعبي، خاصةً مع علاقته المشبوهة ببلجيكا، وليثبت من جهة أنه صاحب القبضة الحديدية على الكونغو، وبذلك ظل في حكم البلاد قرابة أربعين سنة، من سنة 1960 إلى سنة 1997. وخلال هذا المدة الطويلة، تذكر بعض التقارير أن ثلث ناتج الداخلي الخام للبلاد يذهب إلى حساباته، وقد فتك بالبلاد نهبا وإفسادا، حتى أن له ممتلكات وعقارات في العالم بأسره.

وقصة موبوتو هي شبيهة بقصة القدافي، فعندما استولى على الحكم غير اسم البلاد، وأنشأ الحركة الشعبية للثورة، وأسس نظام الحزب الواحد، حيث تعطى العضوية في الحزب لكل الكونغوليين، ولو بدون أن يختاروا ذلك. فبمجرد كون المرء كونغوليا يصبح عضوا في الحزب بشكل مباشر. وغير في أسماء المدن كلها تقريبا، فيما سمي بــ “أفرقة أسماء المدن والمواطنين الأفارقة”، لمحو الآثار الغربية وإبراز المعالم الأفريقية، خاصة على المستوى الثقافي، وروّج لشعار “أفريقيا للأفارقة”. وكان نسخة مكررة من القدافي، ديكتاتوريا مصابا بجنون العظمة، لم يؤسس بنية تحتية في بلاده، مع أنه قد قام بتشييد قصر خيالي في مدينته الأصلية جيادوليت، والتي أنشأ فيها مطارا أيضا، وفيها استطاع الهروب في أخرياته سنة 1997.

وقد أسهم في تنحية موبوتو سقوط الاتحاد السوفياتي، حيث فقد الدعم الذي كان يلقاه من الولايات المتحدة، لأن خطر انضمام الحركات الثورية التي قامت ضده إلى المعسكر الشرقي لم يعد قائما. كما أن الأحداث التي وقعت في رواندا، والإبادة الجماعية التي حدثت هناك، أسهمت في هجرة ونزوح مئات الآلاف الروانديين إلى الكونغو، وصاحبهم بعض المقاتلين، لتقع ثورات عدة على الحدود الرواندية الكونغولية، واندلعت حرب كبيرة على الحدود، بالأضافة إلى النزاعات المتعددة على الحدود ما بين الدول المجاورة للكونغو، فضعف حكم موبوتو، وقرر الهروب إلى التوغو ثم التوجه لاحقا إلى المغرب، وهنا تُوفي ودُفن.

موبوتو نهب البلاد، وتركها كما تركها الاستعمار البلجيكي، فبعد أن قامت ضده عدة حركات احتجاجية فرّ هارباً بجلده، سنة 1997، ليتولى رئاسة البلاد من بعده لوغين ديزيري كابيلا ــ Laurent-Désiré Kabila، وكان ثوريا، صديقا لتشي جيفارا.

ولم يكــد لوغين كابيلا يستأنس بحكم البلاد حتى تم اغتياله، وذلك بعد أربع سنوات قضاها في الحكم (1997ـ2001). كابيلا جاء إلى الحكم يحمل في الظاهر أفكارا إصلاحية، لكنه لم يستطع تحقيق أي شيء خلال أربع سنوات، ولم يستطع الوفاء بوعوده، بل أكثر من ذلك، اكتُشف أنه هو أيضا كان يتاجر في العاج وفي خيرات الكونغو بشكل غير قانوني. ثم أتى ابنه من بعده جوزيف كابيلا، الذي تولى الحكم لمدة ثماني عشرة سنة (2001 ــ 2019)، والذي تعاطف معه الناس، لأنه ابن الرئيس المقتول غدرا من قبل حرسه. جوزيف كان مقيما في تانزانيا، التي كانت منفى أبيه أيام حكم موبوتو. وقد تلقى دراسته العسكرية في الصين، وتولى زمام الحكم في عمر الـ29. ومع كل التعاطف الذي لقيه، إلا أنه أيضا لم يسلم من المؤاخذات ومن الاتهامات بالفساد،

ثم أتى الرئيس الحالي فيليكس تشيسكيدي والذي كان أبوه مناضلا مشهورا. نشأ في بلجيكا وفيها تلقى دراسته. تولى زمام الحكم منذ سنة 2019، وأول ما يثير الانتباه في توليه الحكم أنه شخص يتولى حكمَ بلادٍ لم يترعرع فيها، ولذلك فأثناء تنصيبه استدعى أصدقاءه في بلجيكا، ومن خلالهم شكل الحكومة لاحقا. حكومة كل أعضائها عاشوا ونشأوا في الخارج، ولا يدرون حقيقة الأوضاع في البلاد. وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات، ما زالت الحال هي الحال؛ فالكونغو اليوم مصنفة من ضمن الدول الفاشلة التي لا تستطيع تسيير أمورها بذاتها، خاصة في قضايا الأمن والصحة والتعليم، ليس لانعدام الإمكانيات، بل لأن كل من أتى إلى الحكم فيها لا يكون شغله الشاغل إلا النهب في ثروات البلاد قبل أن يُـغتال أو ينُــقلب عليه. وفي سبيل توفير حماية موهومة له، ينبطح للدول الغربية، التي تستغل خوفه من الانقلاب عليه لتشترط عليه ما تشتهي، ولتأخذ من خيرات بلاده ما تريد.

وفي الختام، لا شك أنك عزيزي القارئ، وطوال هذه المقالات الأربع، أدركتَ معي كيف أن قصة الكونغو هي حقا قصة حزينة جدا، فرغم وفرة الشباب واليد العاملة، ووفرة الموارد الطبيعية، وشساعة الأراضي، وكثرة الخيارات الاقتصادية الاستراتيجية، إلا أن البلاد تعاني الويلات، وتفتقر إلى كل شيء تقريبا؛ في كل المجالات، وليس في المجالات الحيوية فقط. وستحتاج إلى وقتٍ طويل لكي تستطيع أن تنهض. وهي ولا ريب ستفتقر إلى تضحية أبنائها وإلى جهودهم وخبراتهم، بما في ذلك خبرات أبنائها في الخارج.

والواضح جدا لكل ذي بصيرة أن هناك حاجة إلى الاستثمار في الإنسان، وفي حب هذا البلد وشرف الانتماء إليه. فهناك ما بين ثلاثة إلى ستة ملايين كونغولي في الخارج، فيهم أطر عليا يمكنهم أن يفيدوا بلادهم بخبراتهم وتجاربهم وكفاءاتهم، وسيكون عليهم الاستجابة لنداء الوطن ولأنينه وجراحه، والعودة إلى بلادهم لمحاولة الإقلاع والخروج من الوضع الحالي، وإن كان هذا الأمر صعبا للغاية. سيكون على الكونغو أن تنفتح على الشراكات المفيدة، كالشراكة مع المغرب، ومع الدول الأفريقية التي حققت بعض التقدم، للاستفادة من تجاربها، خاصة أن هذه الدول لا تكون مطامعها بقدر المطامع التي تكون للدول الغربية، التي تتعامل باستمرار مع الدول الأفريقية باستعلاء.

إن “أفريقيا للأفارقة”، يجب أن ينتقل من مجرد شعار جميل وبرّاق، إلى خطة للعمل وإلى استراتيجيات مشتركة للنهوض ببلدان القارة. القارة السمراء غنية بموارد الطبيعية، بالمعادن النفيسة، بالتنوع النباتي والحيواني، غنية بمساحتها الواسعة، بموقعها الاستراتيجي، بتنوعها الثقافي، كل ذلك لو أُحسِن استثماره لكان عاملا مساعدا على النهوض والإقلاع الاقتصادي والحضاري. نعم، يمكن للانتماء للقارة الأفريقية أن يكون عاملا مفيدا في إنشاء شراكات يمكن أن تكون مفيدة لكل الأطراف، ودول مثل الكونغو يمكنها أن تستفيد من الآخرين من دول القارة، دون أن تكون خاضعة لهم.

وقد صدق المتنبي إذ يقول:
ولم أرَ من عيوب الناس عيباً *** كنقصِ القادرين على التمام