الرؤية الواسعة
هذا المصطلح أخذته من تقديم المترجم محمد الداودي لكتاب “أمريكي بين الريفيين لفنسنت شيين”. حيث كان شيين “من خلال تأملاته يبحث عن هذه الرؤية التي ترمي إلى استيعاب المنطق الأشمل والأوسع للتاريخ الكامن وراء الحدث”. ص21.
عندما يمتلك الإنسان رؤية واسعة يقبل الكثير من الاختلافات والمظاهر التي يراها في الحياة. ربما قد يرى الكثير حادثة ويحسبوها فريدة من نوعها تستحق الدراسة وحرق الأعصاب، لكننا نجد فردا لا تستهويه تلك الحادثة ولا يلتفت إليها ويعدها من نواميس الكون ولا يصيبه العَجَب البتة.
حتى تتوفر لدينا هذه الرؤية، نحتاج للصبر والعزم والشجاعة كي نقبل الكثير من الأشياء. وهذا لا يأتي من فراغ.. بل يأتي من السعي المتدرج نحو أفق المعرفة والاستشراف؛ سعي لا يأتي لمن يقف في مكان الأستاذ في القسم ويحكم على زملائه عن طريق ابتسامة كل واحد منهم. وإنما يأتي بالبحث عن مفتاح كل فرد ومحاولة قراءة دخيلة نفسه وإن كان الغالب أن لا نصل إلى شيء.
في اعتقادي أنه يوجد طريقان لتوفُّر هذه الرؤية:
1- القراءة:
يقول كاتب فرنسي:
Lire pour devenir l’architecte de son destin.
اِقرأ لتصبح مهندس قدرك.
القراءة تنقلك من وهم الاعتداد بالنفس إلى حقيقة التدبر في خلق الله وقبول ما تراه من تنوع نُعرفه في بعض الأحيان أنه اختلال وانحلال وخروج عن الصواب.
القراءة تعلمك أن “العبرة بالتاريخ سمة يتحلى بها أولو الأبصار” وتبين لك أن الوقت خير معين على بلوغ الذروة في الفهم واستعادة المبادرة للانطلاق.. وعدم التسرع في إصدار الآراء.. تعلمك أن الدقيقة بل الثانية قد تقضي عليك.. تخبرك أن الموت يفوز باللعبة في النهاية. لذلك، اعرف كيف تصنع؟!
2- السفر:
يعلمك السفر كيفية توقع كل شيء؛ وكيفية الخروج من حالات الطوارئ بأقل تكلفة.
سفرك في أرض الله ينير دربك ويكشف لك دخيلة نفسك ويعرفك على معالم الحياة.. ثم يضربك بعنف؛ ليرى هل تصلُح وتكمل حتى يعطيك الرؤية الواسعة…
يعلمك الانتقال الكثير مصاحبة الوحدة ومصاحبة الناس.. تعطي لكل مساحته وتتركه يبدي تألقه ولمعانه..ترى السيء والحسن.. الانفتاح والانغلاق… ويمكن أن ندخل التربية الفكرية في هذا المجال.
يقول الدكتور إدريس أوهلال في كتابه “قواعد الحزم”: “إن التربية الفكرية تبدأ بسؤال: ما العمل؟ ثم بخوض التجربة. ومع التجربة وقبلها وبعدها نحتاج إلى يقظة فكرية، وإلى التطوير والتحسين المستمر، وتعلم طرح المشكلات الحقيقية وحلها بفعالية وكفاءة، واليقظة تجاه مخاطر الفكر ومِصيداته؛ لأن التربية الفكرية سلاح ذو حدين؛ فإما فكر عملي حي متفاعل مع واقعه فاعلا لا مفعولا به، وإما فكر فلسفي مجرد أو فكر روائي مجنح. كان الله للطيبين من الفلاسفة والروائيين.” ص89-90.
السفر يجعلك يقظا متوجسا خائفا مستعدا للمواجهة، يعملك الاستغناء عن الكل إلا عن بدنك. السفر يجعلك صلبا قاسيا لا تستعمل قلبك إلا بمقدار.
الرؤية الواسعة لا تظهر إلا عندما تضيق عليك السبل ولا تظهر في ملامحك. هذا لن يتحقق إلا بمعونة دليل يقودك ويبين لك حجمك كلما انحرفت بك الاتجاهات.. دليل يصعب أن تلتقي به؛ كما يصعب أن تصبر معه.. ابحث عنه في أوقات الأزمات!!
يقول فرانك أوهارا:
In times of crisis, we must all decide again and again whom we love.