سُلطة الخوف وخوف السلطة!

978

الخوف نزوع فطري في الإنسان، يحيا معه ما دام موجودا، إنه المرافق اليومي الذي لا يتخلف عن الحضور متى اجتمعت شروط بروزه. الخوف قد يمنع التفكير، لكن التفكير أبدا لا يمنع الخوف، يقول المرء لذاته إن الشجاعة ملازمة للوجود فلا شجاعة إلا تلك التي تخترق جدار الخوف برأسها المدبب.

في الحقيقة عندما يستبد بنا الخوف نتجنب الإعلان عن هذا الشعور؛ لأنه قد يظهرنا أمام الآخرين ضعفاء، لكن هذا الفعل، أعنى الإخفاء، أليس يمكن اعتباره خوفا أيضاً؟ نحن نخاف من المصير، ونخاف كذلك من أن يكون وجودنا مهددا بفعل عوامل فوق ذاتية، وعلى هذا الأساس تتأكد مسألة سلطة الخوف التي لا تغادر شعور وتفكير الإنسان.

ليس علينا أن نثبت وجود الخوف لكي نقرر بأن هذا الشخص خائف، إن أسباب الخوف متعددة ومتنوعة فكما أنها قد تكون نتيجة الواقع يمكنها أيضا أن تكون صادرة عن الذات، الكتلة الغامضة التي تحوي الكثير من الأشياء المنشئة للخوف. إن الخوف صناعة نفسية قبل كل شيء، وتفسير ذلك أن الخوف لا يوجد إلا عندما يكون داخلا في مجال المفكر فيه، التفكير في الخوف يعني استدعاؤه. الفيلسوف فريدريك نيتشه يوصي الإنسان بعدم التفكير في الهاوية، يقول: “لا تفكر في الهاوية حتى لا تفكر فيك أيضاً”.

فطرية الخوف لا تمنع من الحكم عليه بكونه وهم يخلقه الإنسان بنفسه عندما لا يكون أمامه إلا أن يخاف، الوعي بالوجود هو الذي يسبب لنا الخوف، أما انعدام الوعي وأما انعدام الخوف لا يمكن إلا أن يجعلنا نقرر أنه لا توجد حياة. استبداد الخوف أشد من الاستبداد ذاته، يمكن أن يفعل الخوف ما لا يستطيع الاستبداد فعله، سلطة الخوف قد تمنعنا من تذوق جمالية الكون والاستمتاع بالوجود بوصفه حق للإنسان وحده، ولذلك أغلب المصابين بالاكتئاب هم في الحقيقة أشخاص خائفين، لست طبيبا، لكنني واحد من أولئك الذين يعتبرون الخوف نقطة للبدء من جديد.

وهل الخوف مقدر على الإنسان وحده أم أنه شعور يتقاسمه المجتمع بصفة كلية، في شموليته، مثل الدولة والسلطة؟ في البداية نقرر أمرا هو من البداهة ما يكون، من يملك السلطة هو بالضرورة إنسان، ومن طبيعة كل إنسان أن يعيش لحظات من الخوف والارتباك، ونتيجة لذلك، كل سلطة أو سياسة هي انعكاس لشخصية من يحكم، والخوف جزء من شخصية السلطة، وبالتالي نقرر بأنه ما دام للإنسان مصالح خاصة يريد تحقيقها وفي امتلاك السلطة مصلحة، فإن من يحاول أن ينازعه في هذه السلطة سيكون مآله التعذيب والاعتقال أو الموت، حسب ما تقتضيه الظروف.

إن الخوف من ضياع الملك يصير بمثابة سلطة ضد السلطة، لذلك نجد أن أهل الرياسة منشغلون بين صد عدو الخارج وقهر عدو الداخل، وعدو الداخل قد يتبدى في كل الشخوص الواقعة في أرض مالك السلطة وأسبابها، وقد يكون عدو الداخل وسواس النفس الذي لا يغادر رأس صاحبه إلا بترك الملك أو ضياعه، أو بموته. وخوف السلطة يظهر في وعي الأفراد بحقوقهم، والدولة قد تعدم في بعض الأحيان أسباب هذا الوعي بقتل الثقافة وإحراق الكتب وإفساد التعليم، وإذا اشتد الوعي سلكت طريقا لها في الحكم قائما على أساليب الإلهاء وإشغال الناس بقضايا جزئية لا تربطهم بواقعهم، وقد تنفق السلطة في دعم التفاهة والبرامج الهابطة التي تعرض بضاعة منحطة وأنواعا من المواد فاسدة، وقد تجند الدولة الآلة الإعلامية لتخدم نفس الدور في تخدير المواطنين وتشكيل عقولهم بما يخدم حكم السلطة واستمرارها.

خوف السلطة من الخارج ليس أكثر شدة من الخوف من الداخل، يمكن للداخل أن يكون صديقا لعدوها في الخارج، ويمكن للخارج أن يكون صديقا للسلطة فيعينها على قهر هذا الذي يحلم بالحرية والانفلات من قيد الاستبداد الذي حبسه عن الحركة، حركة القول والفعل، وحركة الإبداع.

الاستقرار لا يعني دائما أن البلاد بها أمن، إن الأمن المطلوب في الدولة هو ثبات السلطة. عندما يحتج الأفراد على السلطة بسبب انعدام الشغل ورداءة الخدمات العمومية فإنها تقمعه، وعندما تخرج الآلة الإعلامية فإنها لا تقول شيئا سوى أن الدولة تتوفر على الأمن، مع ما لهذه الكلمة من معنى. الأمن في تصور السلطة هو غياب الحرب، لكنها عندما تريد تسويق مقولتها الأمنية فإنها تعني انعدام الفوضى في المجتمع. لكن ما معنى أن تكون الدولة مستقرة؟ وهل غياب الحرب دلالة على أنه لا خوف؟

الخوف ملازم لوجود الدولة مثلما هو الأمر بالنسبة للإنسان، إذا غاب الخوف عن حسابات الدولة فهي إما غير مهتمة لمستقبلها أو أن هذه الدولة غير موجودة أصلا، عندما تربط الدولة صداقات كثيرة مع محيطها الإقليمي والعالمي فإن ذلك لا يمنعها من التفكير فيما قد تؤول إليه الأوضاع في الغد، الإنسان متقلب، والسلطة كذلك. ولذلك يقرر ابن خلدون أن الأيام دول.

العقل سلاح الأفراد في مواجهة الخوف، لأن الخوف مرادف للخرافة، فعند أفول العقل تبزغ الخرافة، وليست الخرافة إلا وسيلة لحكم الشعوب، مناقشة الحاكم تعني مناقشة الله، ولا يجوز مناقشة الله، ومن هنا ينشأ الخوف من النقاش لأنه ارتبط بالمقدس. متى ارتبطت السياسة بالمقدس كانت الانتكاسة.