فرحة طفل قروي بالعيد الكبير

ما إن نرجع إلى بيتنا الطيني من مصلى العيد حتى نخلع عنا عباءات وجلاليب العيد، ونلبس للعمل ما تيسر من لباس بال، والويل لمن غاب أو تأخر، وأما الواقف بلا حركة فهو الأظلم، ولولا حرمة الزمان لناله من رب البيت لطمة كافية لتذكره بالواجب الموسمي، ثم يتكلف كل منا بعمل يساعد به الوالد على نحر كبش العيد، فننتشر في زوايا البيت، كما يدخل النمل مساكنه، فهذان يمكسان الكبش ويحضرانه إلى وسط البيت على الأرض الجرداء، واحد يدفعه من قوائمه الخلفية وآخر يجره من الأمامية أو من رأسه بينما يتردد صياحه العالي في الأرجاء، وثالث يحضر السكين المشحوذة بالأمس بحجر صلد وماء قليل، ورابع يحضر حبلا مفتولا وطويلا لتعليق الذبيحة على عمود السلخ، وخامس يحضر سطل ماء لغسل أحشاء الخروف، وسادس يحضر منفاخا لنفخ جلد الخروف حتى يسهل عزل بطانته عن جلده بلا لحم ولا شحم.

لا شيء يسلم من جسم الخروف إلا قرون الكبش وفضلاته، وربما لو وجدنا سبيلا إلى الانتفاع بها ما سلمت منا، ولا تركناها طعاما لكلب حراسة البيت وللكلاب والقطط الضالة، القابعة فوق جدران البيت الحجري، تتحين أدنى فرصة سانحة لسرقة ولو شيء من اللحم المغري المسيل للعاب.

تكاد عيناي الطفولية تفيض بالدمع حزنا، كلما شاهدت والدي ينهي حياة الخروف السمين على عجل في لحظات خاطفة وحركات سريعة ورحيمة، ولكن رؤية مشهد الشواء يكفي لنسيان المشهد الأول، وهكذا تدور عجلات حيوات البشر فتتوقف إحداها وتستمر أخرى، ويحيى الإنسان في متناقضات لا حصر لها، ما بين حزن ينسيه فرحا وفرح ينسيه حزنا، حتى يوقف أجل الله تعالى الحياة.

يسمي بعض المغاربة أو كثير منهم عيد الأضحى بالعيد الكبير، ولقد تساءلت غير ما مرة عن السبب الذي دفعهم إلى تكبير العيد الثاني وتصغير الأول، وكلاهما عيد، فلم أهتدِ إلى جواب شافٍ ولم أجد تفسيرا كافيا، فاعتمدت على نفسي، وفسرت ذلك بأن في العيد الثاني أكل للحم بمختلف أنواعه وليس في الأول من الثاني شيء، وأظن أن تسعة من عشرة من المغاربة يحبون اللحم المشوي وأن العاشر كاذب أو معذور بمرض أو بغيره.

ولا تكاد تتوقف أوامر ونواهي زعيم البيت، إلا بعد الفراغ من سلخ الكبش واستخراج الأحشاء، وفصل الرأس والكراع عن الذبيحة، تشمر أمي النشيطة عن ساعدي الجد وتشد مئزرها، وتتمنطق بأسفل عباءتها، وتنادي أخواتي العازبات ليحضرن لها كل ما يلزم من ماء وأوان معدنية وخشبية لغسل معدة الخروف وأمعائه الغليظة والدقيقة وتنظيفها من فضلات الخروف، آخر طعام دخل معدته قبل خروجه من الدنيا ودخوله بطون البشر الجائعة، لتصنع منها بعد ذلك وجبة شهية من الحمص المنقوع أو من حباب الزيتون الأخضر الأجوف، مع شيء من التوابل المنكهة.

يعلق والدي العزيز كبد الخروف ورئتيه وقلبه بعد غسلها في وسط الدار على شجرة رمان شحيحة تشرب كثيرا ولا تتثمر إلا حبيبات قليلة، ويتركها في الهواء الطلق إلى حين أن تجف، وينضج الفحم فيصبح نارا حمراء هادئة بلا دخان مزعج، ينصرف إلى إعداد كؤوس من الشاي الساخن.

في عصر هذا اليوم السعيد تجتمع الأسرة الكبيرة في رواق بارد وظليل، لأنه واسع وقائم على لبنات ترابية مسقوف بالقصب وأعواد الكاليبتوس، تتحلق الأسرة السعيدة حول مائدة خشبية مستديرة رخيصة تتقاسم قضبان اللحم المتبل بالملح والكمون البلدي والمشوي على فحم من أشجار الزيتون مع كؤوس الشاي الساخن، وسيء الحظ من توضع صينية الشاي أمامه فهي مسؤولية جسيمة يفر منها الجميع، ولا يتحملها إلا ساق حاذق بطقوس السقاية.

وولت أيام بلا رجعة وأقبلت أخرى وصار طفل الأمس أبا اليوم، ولكن بقي في قلب ذلك الطفل الصغير حنين إلى العيد الكبير يتملكه كلما أقبل العيد.

1xbet casino siteleri bahis siteleri