عيد طفل قروي

رأيت في يوم العيد الآباء يمسكون بأيدي أبنائهم وهم في الطريق الترابية إلى المصلى، فرحين مبتسمين بلبس اللباس التقليدي الجديد بصحبة الوالدين، يرتدون الجلابيب المغربية الأصيلة والمطرزة، بألوان جميلة زاهية تسر الناظرين، وقد عاد الشباب إلى لباس الآباء والأجداد بشدة، وأحسبها إن شاء الله تعالى عودة ميمونة، وقد كان من قبل يقول الإبن لأبيه: لا أستطيع أن أعيش في جلباب جدي، فجلبابه لباس أبناء الأمس ونحن أبناء اليوم.

رأيت هذا المشهد فشدني، فكرَّت بي الذاكرة سنوات إلى أيام الطفولة الجميلة، أيام كنت أقوم في الصباح الباكر من النوم فأغسل يداي ووجهي، وألبس كسوة العيد الجديدة، ثم أقبل رأس أبي وأمي وأهنئهما بقدوم العيد المبارك السعيد، وأما إخوتي فأكتفي بالمصافحة و التهنئة الوجيزة المعتادة (مبروك لعيد، مبروك لعواشر).

ثم تأمرني أمي بحمل طعام الفطور إلى المسجد، فأحمل بين يدي الصغيرتين صحنا خزفيا عليه حساء أرز وفي وسطه زيت زيتون، وأحيانا سمنا بلديا، أقطع الطريق الترابي إلى المسجد، المبني في قلب القرية الصغيرة، فأمر بجانب بستان التين الشوكي الذي يحفه سياج من أغصان وجدور السدر اليابسة، أصل المسجد فألتقي رجال القرية أبادلهم التحية، وتختلط في أنفي روائح العطور الفواحة، ما بين عطر رخيص وغال، فلا أدري أيها أزكى وأنقى، ثم يأمرني أحدهم بوضع الطعام في غرفة الفقيه، وهو الإمام الراتب، وغرفة الفقيه غرفة طويلة واسعة، على أرضيتها فراش قليل رخيص بال، مكون من زربية من صوف وأخرى من الملابس البالية الممزقة، وفرو شاة أو ماعز أبيض مدبوغ، وبها نافذة خشبية ضيقة عليها شباك من حديد صدأ متآكل، بابها من خشب قديم سقط عنه الطلاء، بجانبه شجرة زيتون مثمرة.

أضع صحن الفطور بجانب أخواته من الصحون الممتلأة التي أحضرها قبلي أطفال القرية، صحون خزفية ومعدنية بعضها فيها ما في صحننا، وأخرى مختلفة عما أتيت به من طعام، فيها حساء معجنات القمح مع الحليب، وفي زاوية الغرفة، بعيدا عن النافذة خشية أن يطفأ الهواء المتسلل إليها نار الفرن الصغيرة التي وضع عليها إبريق شاي معدني، يغلي ما بداخله من ماء وشاي كأنه بركان نشط متأهب للانفجار في كل لحظة، يجلس رجل جلسة القرفصاء يعد كؤوس الشاي المغربي الساخن، على قنينة غاز فوقها فرن معدنية صغيرة وأحيانا خزفية، تحيط به أكواب شاي زجاجية فارغة تحملها صينية قصديرية أو فضية كبيرة لامعة، حولها إبريق معدني كبير لغلي الماء واسع القاعدة، وله خرطوم طويل مفتوح إلى الأعلى (مقراج).

مقالات مرتبطة

يأكلون مما أحضروه من بيوتهم من طعام ويشربون ما أعده لهم ساقِ الجماعة من شاي حتى يشبعون ويرتوون، ثم تجتمع جماعة من كبار رجال القرية في (مقصورة المسجد)، ويشاركهم المجلس شباب وأطفال القرية، فيسمعون ويبصرون ولا يتكلمون، ولا تكون الكلمة الأولى والأخيرة إلا لشيوخ ورجال القرية، الذين يطول حديثهم ونقاشهم الحاد وتعلو أصواتهم ما بين موافق ومخالف، حول أجرة الفقيه (الشرط) وهو عرف قديم يتعاقد الفقيه بموجبه مع المصلين على أداء أجرة كل شهر أو شهرين، بشرط أن يصلي بهم الصلوات الخمس ونافلة التراويح، وما يحتاجون إليه من مال لإصلاح المسجد، ومن يكتري (بلاد الجامع)، وهي أرض فلاحية مأجورة، لا يحرثها ولا يزرعها ولا يرعى فيها أحد من أهل القرية، إلا بإذن الجماعة المذكورة، بعد أن تعرض في كل عيد على (سوق الدلالة) وهي المساومة الجماعية وتكون من نصيب من يدفع ثمنا مناسبا يرضي جماعة القرية، يؤدون منه أجرة الفقيه، أو يسلمونه كاملا إليه.

ولا يؤدي أجرة الفقيه الزهيدة إلا عمار بيت الله تعالى، وأما تاركو الصلاة من حين لآخر أو تاركوها بالمطلق، والأشحاء الذين لا يزال رجال الجماعة يحببون إليهم الإنفاق على بيت الله عز وجل وعلى أهل القرآن الكريم، فلا يخرجون من جيوبهم إلا دراهم معدودات لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تكفي إلا لأجرة الشهر والشهرين، ويرجئون ما عليهم من دين الأجرة إلى موسم الحصاد وجني الغلة أو بعد بيع الأكباش السمينة في عيد الأضحى، وليس ذلك من الإرجاء في شيء، وإنما هو هروب ماكر، بل ومنهم من إلى دعي إلى نفقة في سبيل الله بخل بما عنده من مال كثير واستكثر واعتذر، وإذا ما حضر عرسا فيه راقصة شعبية علق على صدرها الناهد أوراق لآلاف الدراهم مبتهجا مسرورا.

وربما كان منهم من يتوهم أن الفقيه رجل عابد زاهد ليس به حاجة إلى ما يحتاجه الناس من طعام وشراب ولباس، وكأنه من طينة غير طينة البشر، ولعل هذا ما دفع بعض الفقهاء الفقراء والمساكين، إلى المتاجرة بالقرآن العظيم في المقابر يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، فيقرأونه على الأموات مقابل دراهم معدودة، ويتسابقون إلى قرائته في الأعراس والولائم مقابل ذلك ومقابل غيره، هداهم الله تعالى وأبعدهم عن هذا العمل المهين لكتاب الله العزيز.

وما إن ينفض مجلس جماعة القرية، حتى أنصرف إلى أقراني الصغار أشاركهم ألعابهم الرخيصة والبسيطة، فألهو معهم بكريات الزجاج نقذفها في الحفر الصغيرة، أو ألعب كرة القدم، أو لعبة الهروب و الاختباء (الغميضة) إلى أن ينادي علي مناد من أهلي بيتي أن وقت الغذاء، وإخراج الماشية لرعيها في الحقل قد آن أوانه، فأعجل بتلبية النداء قبل أن أندم حيث لا ينفع ندم.

1xbet casino siteleri bahis siteleri