خُطُورُ الخَاطرة

عالمُنا اليوم يزخَر بالعناوين والمواضيع التي ينبغي الوقوف عليها والحديث فيها حديثا طويلًا مسهبًا، فكلّما قرأتُ مقالةً أو قصّةً حقيقيّة أو مختلَقَة لزكي مبارك أو عليّ الطّنطاويّ أو الرّافعيّ أو محمود شاكر أو أحمد أمين وغيرهم -رحمات ربّي عليهم- ممّن ملؤوا مجلّة الرّسالة المصريّة التي أسسّها أحمد حسن الزيّات -يوم ١٨ رمضان ١٣٥١ه‍- مواضيعَ شتّى في مجالات شتّى. وبمقدور أديب اليوم ألّا يرفع قَلَمه عن الصّحيفة، ولا يجفّ حبره عن الكتابة، ولا ينضب مَعينه من المعاني والأفكار المنثورة في الواقع المعيش كحبّات الزّرع في الحقل.

على درب وخطى هؤلاء الذين سبقونا إلى الكَلِم، الذين كانوا يقطفون الفكرة من رحِمِ الواقع، ويخطفون الخاطرة من رحيق الوردة، من الأزهار والثّمار، فيلبسوها عباءة غير عباءتها الأولى، وينمذجوها نمذجة فنّيّة جماليّة، من مجازٍ وتشبيه واستعارة، ويُخفُونَ معناها القريب بتوريّة تبعدها، وكناية تلزمها الانفتاح على متاهات وعوالم، لغاية جماليّة أو لغرض خَلّاق. وحتّى لا يكون الكلام ككلام الصُّحفيّ واضحًا جافّا، سرّ ما يكتنفه اللّمحة الخاطفة والخبر الحديث.

وعودة -للدّرب- نستطيع أنْ نخرج من هذا الواقع كلّ شيء، ونميّز بين الفضيلة والرّذيلة، بين الحقّ والباطل، بين الخير والشّرّ، بين الثنائيّات الحياتيّة التي بهما يستقيم الوجود، فَنعصِر هذا وذاك ونقدّم للقارئ زُبدة الحقوق والواجبات، ونبيّن له غاية وجوده والرّسالة التي لأجلها وُجد.

عجلة الواقع تسير نحو الأمام بسرعة، وتتغيّر بتغيّر الزّمان، وهذا القُدُم هو الذي يزيدها اشتعالًا، ويملأ الدّنيا حديثًا، والمثل الشّعبيّ يقول: “عِشْ نْهَارْ تَسْمَعْ خْبَارْ”. وإنسان اليوم غير إنسان الأمس في جميع شُؤُون الحياة ومناحيها؛ فقد أصبح شجاعًا لا يَهاب التّجريب والاكتشاف، واقتحام خَفِيِّ الأشياء. وأدنَى شُعَبِ هذا، سَمِعتِ أنّ شخصًا كان حديث الأسبوعين السّابقيْن في وسائل التّواصل الاجتماعي، وقد فعل في نفسه فعلة خرّبته وأذهَبَت عنه العقل والحُجّة، وهو يقرأُ كتابًا من الكتب المحظورة على شاشة المباشر، وكلّ ذا في سبيل اكتشاف الحقيقة الغامضة، ورفع السّتار عن المستور من الأمور، وأعلاه الذّكاء الاصطناعي الذي يعكس تقدّمًا رهيبًا حتّى غدَا مخيفًا عنيدًا.

فكَّرْتُ فيما مرّة في مسائل عدّة كنتُ أحسب نَفْسِي أنّها لنْ تَخْطر على شخصٍ آخر، أو ما خطرت على أحد قبلي؛ لكن هَيْهَات هيهات! ما ترك الأوّل للثّاني غير أخبار اليوم وأحداث السّاعة. فالموضوع الذي يشغل بالك ويقضّ مضجعك، ويملأ تفكيرك، ويذهب عنك الطّمأنينة والحلاوة التي يتمتّع بها الجاهل، كما قال ابن المعتز:

وحلاوة الدّنيا لجاهلها ومرارة الدّنيا لمن عقلَا

مقالات مرتبطة

حتمًا شغل غيرك وكَتَبُوا عنه قبلك؛ فالإنسان له خلفيّة وُجُوديّة مشتركة، وهو دائمُ السّؤال، مُلِحٌّ في طلب الجواب.. وكان رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم- قبل نزول الوحي دائم العزلة والتّفكير، يفرّ من بني جنسه ويأنَس بوَحدَته، قراءة للكون وبحثًا عن الحقيقة.

دراستي الجامعيّة تستدعيني في كلّ صباح وتُنَاديني لِأُوَدِّع دفء فراشي وأكون حاضرًا بيْن زملائي في قسم اللّسانيات، هذه التي جئتُها صبرًا واحتسابًا لا حبًّا وشغفًا. وأرجو أن يكون شرّ عاصفتها سابقّا شر الخيار؛ والشرّ كذلك لِمَن ولّا وجهه إلى وجهة لا يحبّ أحدًا أنْ يولّيها. فكيف وهو يرى نفسه مُوَلّيها؟ لأنّ الإبداعَ والخلقَ يأتيان من الإتقان النّابع من الشّغَفِ والحُبِّ؛ وهذه الأخيرة -أيْ- اللّسانيات- علمٌ يدرس اللّغة دراسة علميّة، وعلميّة اللّغة من الأمور المذمومة عندي؛ فاللّغة سحرٌ يلامس الوجدان ويهزّ الكيان، ولا أريد أنْ أعرف ميتافيزيقيّة هذا السّحر أكثر ممّا أريد بدوري أنْ أصبحَ ساحرًا، أتقن السّحر وأتفنّن في خلقه. وهذا موضوع طويل -لا يهمّنا- لكن -كذلك- يدخل ضمن اقتناص الفكرة ونَمْذَجَتِهَا.

ففي ذهابي وإيّابي تُوقفني مشاهد كثيرة، سواء في النّقل الجامعي أو في الحَرَم الجامعي أو في الخزانة الجامعيّة. هذه المشاهد في مُضْمَرِها فكرًا عميقًا، والذي يُمْعُنُ النّظر ويجيل الفكر ويربط الأحداث يستطيع أنْ يكتب مجلّدات كثيرة من الحجم الكبير.. والنّفوس المُرْهَفة تقتنص الفكرة من الأمر الصّغير، ليس كصغار العقول الذين يستهويهم الفضول وتجذبهم سفاسف الأمور.

مدمنٌ على القراءة للأزهريِّين الكبار، ويُذهِلني ما تحويه كتبهم من مقالات وطرائف وأخبار من التّاريخ. ولا أعرف من أين يؤتون بها؟ وكيف يختلقونها من العدم وغير العدم؛ ربّما لحذاقتهم أو لسَعَة اطّلَاعهم أو ربّما لقدرتهم على اللّعب باللّغة كما فعل أبو العلاء المعرّي في اللّزوميات -رحمه الله-.. وهم على كَثْرَتهم وبرَاعَتهم نَهَجُوا النّهج نفسه في الكِتَابة إلّا أنّهم اخْتَلفوا في الأسلوب والذّوق والافتنان في التّعبير بالبَيَان، بالرّغم من البيئة التي توحّدهم وتَجمَعهُم؛ فهذا علي الطّنطاويّ غير زكي مبارك وغير العقاد وغير طه حسين وغير الرّافعيّ.. هؤلاء كبار الأدباء وعلماء العربيّة، مارَسُوا التّدريس وعَرَفوا مشكلاته، فلوْ عُدْنا لحديثهم عن تقويم التّعليم وكيف النّهوض به والتَزمْنا بما ضمّنوا كُتُبهم من آراء ودواء حول تدريس اللّغة العربيّة.. حتمًا سيكون الشفاء.

ما زلتُ في كلّ مرّة أعود إلى مقالتيْ [علي الطنطاويّ] في كتابه [صور وخواطر] وأعجَب أشدّ العَجَب لِصَنِيعه، وللرّوح الحيّة التي بثَّها في هاتيْن المقالتيْن حتّى أنّي قرأتهُمُا مع تخيّل المشهد يانعًا يمشي على حبٍّ؛ وهما قطعتَان أدبيّتَان صالحتَا للتّجسيد والتّمثيل.. وأعدّهما أكثر من خواطر تخطر على البال فتُدوَّن. وكلّ مقالة لا تخلو من درسٍ وفائدة، قد تكون واضحة أو مُضمرة.

وختامًا، فالأدب الرّاقي لا يعتمد بقوّة على الخيال والخَلق والإتيَان بالمُوَلَد من الكلام، أكثر ممّا يعتمد على القِطعة الأدبيّة المشيّدة بِبِنَائها وَزَخَارِفها وتَحسينَاتها حتّى لا تكون نخرة أو فارغة، وأنْ يكون الوصف في المشهدِ رقيقًا نبيلًا لا جافًّا هادئًا، لا يحرّك القلب ولَا يلامس الوجدان.

1xbet casino siteleri bahis siteleri