مُصَابُونَ بِاللُّغَة

قد يبدو الأمر جنونا بديهيا بل هذيانا حتى، لكنني لم أتحمل ما مارسته الفكرة من إغراء جعلني أرغب بشدة في تجاوز ما قد يمنع سيري من حواجز لغوية عفوية كانت أو قطعية، والكتابة دون النظر إلى الوراء.
كلما جالست ذاتي عن قناعة تامة بغاية بلوغ إحدى تلك الجلسات الرهيبة المحكاة عنها في مواقع التواصل أو في الكتب، لا أجدني إلا واقعة أجر بحبل يتراوح بين نعيم الفكر، وجحيم الذاكرة، لذا فغالبا ما تنشب خلافات بيننا -أنا وأناي- بل وتستمر، عن الموضوع الذي يجب أن نناقشه؛ إذ إننا لا نختار واحدا حتى نجد عنقاء ينفلت من رماده فنضل سبيل العودة.

وربما أكثر ما سأتجرأ على قوله الآن أن التوصل إلى اتفاق يرضي الطرفين، أي التوصل إلى موضوع موحد يستحق فائضا حبريا، تترتب لأجله الحروف وتسكن في حضرته الأرقام والظلال، حادثة نادرة الوقوع بامتياز. لذلك، لطالما تساءلت عن ما الذي يجعل من الموضوع معجزة إلى ذلك الحد؟ أهي ثمالة ما نتجرعه من شاي وبن في حياتنا اليومية؟ أم أنها ثمالة ما تفيض به أفئدتنا من هموم؟ أم أنه ضجيج الفكر حين تتزاحم الأفكار ولا تخضع لطابور الانتظار فيترتب عن ذلك رحلة إلى الجنون، حتى ربما يكون سبب ذلك ضبابية المشاعر أو ما يملأ الحياة من أوهام، أو دعني أقول إن اللغة هي السبب.

من البديهيّ القول في تعريف اللغة أنها أداة تواصل منذ الأزل ألّفت بين قلوب البشر من خلال خطوط لغوية نحوية منسوجة بعناية بأبجديات تتراوح بين عربية ولاتينية، إلا أن هذا التراوح الأخير ما ضلل غاياتها ولا أتلف سبلها ولا حتى أتلف طابع الإلحاح الذي لطالما تميزت به. إلا أن اللغة في نقطة ما قررت الانحراف عن مسار غاياتها الرئيسي، أي الخطاب والتخاطب بغاية الألفة، الحب وتأسيس المجتمعات المدنية، إلى تضليل المعاني ونسج الأوهام، فأضحت الكلمات بذلك وما تكونه من عبارات لا ينطوي إلا على صفة الجبن وذلك بالاختفاء تحت رداء وهم اللغة.

قد يؤمن الكثير أن ذلك هو الطابع الغني والمبهر للغة، أن تنطوي العبارة، الكلمة أو ربما الرقم على مجموعة من الدلالات والمعاني، فكلمة “العين” لا تشير إلى احدى الحواس فقط بل تطلق على الينبوع، نفس الشيء، الحسد وتمني زوال النعمة، كما يمكن أن تنغلق حلقة الرقم أيضا على معاني تبعد تماما عن بساطته فعلى سبيل المثال ربط علماء النفس الرقم واحد بالاستقلالية والبدايات الجديدة، أما الرقم اثنان فغالبا ما يندرج في سياقات الحساسية والصبر، إلا أن هذه المعاني إلى جانب أخرى، تتناقض في أحيان كثيرة حتى تتظلل الدلالة الأسمى والأصح في عتمة التعدد والتلاعب كما يراه البعض الآخرون، هؤلاء نفسهم الذي يرون أن التلاعب باللغة جريمة يجب أن يعاقب عليها القانون وأن تخصّص له أحد مقتضياته، ومن بين الأمثلة عبارة *الحمد لله*، قد لا نختلف في المعنى الأساسي الذي جاءت به العبارة وهو “الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه وتعالى، مع محبته والرضا به، فلا يكون المحبُّ الساكت حامدًا، ولا المُثنِي بلا محبة حامدًا؛ حتى تجتمع له المحبة والثناء” وفقا لابن القيم، إلا أن العبارة عينها أصبحت تأخذ أبعادا أخرى ربما لجمالية ما تنقذه من أوضاع، ما تخففه من هموم، ما تختصره من أحزان أو ما تجعلنا نأمله من فرج.

فبالرغم من كون الحمد غير الشكر، إلا أن الحمد لله تستعمل أحيانا في سياقات الشكر، أما إذا ما اخترنا سياقات أكثر خصوصية أي الحياة اليومية الكلاسيكية، فالحمد لله تنطوي على معاني لا تعد ولا تحصى تختلف باختلاف الأشخاص وخلفياتهم، هذه الأخيرة التي تتباين بدورها نظرا العوامل الثقافية والاجتماعية التي تخلق نقطة تحول في نشأة الإنسان، فتجد تارة إنسانا يقول الحمد لله ليقول إنه بخير بزاف كاع، بينما آخر ينطق بها لسانه مؤمنا أنه ماشي بخير لكن لا كلمة أخرى قادرة على إزاحة كل ذلك الركام، فتجد آخر يعترف بها فقط لأنه ببساطة يقف عاجزا أمام اللغة، فينقذ نفسه من حبل مشنقتها بحمده، تسْأَلْ عن تجاربك فتحمد الله، ربما لخسارة أو لفوز، لموتك أو لحياتك… وغيرها من الأمثلة التي طالها المكر والتصنع تجعلك تقضي حياتك جلّها محاولا تفسير كلمات بسيطة، فهم وإدراك أيّ المعاني كان مقصودا. وإذ إن ذلك قد يجعل منها غنية، رائعة وفاتنة ولكنها ليست بريئة، فَكَمْ مِنْ مَقْصُودٍ لَا يُقَال وَكَمْ مِنْ قَوْل مَا كَانَ كَمَا أُرِيدَ قَوْلُه.

والتلاعب لا يكون بتحميل الكلمة ما لا طاقة لها به فقط، بل يمكن أن يكون بصنع كلمات جديدة بزيادة الحروف أو التفريط فيها وبلوغ ذلك الاختراع العجيب الذي ربما نظن أنه يخفف الثقل على اللغة أو بالأحرى على كلمات وعبارات معينة، إلا أن الموضوع لا يفلح إلا في أن يزيد عبئا، فمثلا إذا ما قلت -إن الجملة تحمل معنى منطقيا ممَنْطقًا-، ألا يكون نفسها إذا ما قلت إن -الجملة تحمل معنى منطقيا-، هو نفسه، نعم، ولكن زيادة حرف قد يخلق انبهارا لدى الآخرين، الغرابة أو الفضول والرغبة في التطفل بسبب مرادف جديد ما كان إلا اختراع لحظة تطلبت سد ثغرة معينة.

“بعض اللغات وُجِدَت فقط لتخفِّف من وزن الموت، لأنّ بعضها يُضاعف من وزنه ووقعه.”

– فضيلة الفاروق

وباعتبار ما سبق، ها هي فئة أخرى نشهد ميلادها داخل المجتمعات، تلك التي تحتضن أولئك الذين يتقنون التلاعب باللغة، إذ إنهم لا يكتفون بها كأداة بل يمتلكونها ويصبحون ممارسي سلطة يتعلمون أساليب السطوة والهيمنة من خلالها ويسعون إلى إتقانها.

ما كان ذلك ليشكل مشكلة لو أن غايته كانت تملك الأبجدية ذاتها، إلا أن الأمر يمكن أن يصل إلى بناء محادثة تبدو عاطفية، صادقة ونوعية إلى حد  يبدو أبيض، لكنها في الواقع ليست سوى محادثة فارغة، أحد طرفيها يسعى إلى التوريط وكشف الأسرار، المستور، المسرات وخبايا روح من أمامه من خلال رداء منسوج بإتقان قوامه اللغة.

إن ذلك حقا يبدو تلاعبا نفسيا خطيرا باعتبار اللغة شيئا يوميا لا يمكن الاستغناء عنه، إذن فالتأثير يطال مجموعة من الأبعاد التي لا يمكن الاستخفاف بها، ولكن دعني أسأل إذا ما قررنا محاكمة الجاني بتهمة الصدق المزيف، الغايات الصادقة اللاموجودة والمكر الواضح فقرر تبرئة نفسه بأن العبارات هي في ذاتها عبارات بسيطة حمّلها الطرف الآخر معاني عميقة جعلته يقع ضحية مبالغة لغوية خلقها بنفسه، ألن يكون محقّا؟

إنها ذات الحروب التي نخوضها مع ذواتنا -أنَا وَأَنَايَ، أنْتَ وَأنْتَ الَآخْرَ، أنْتِ وَأنْتِ الْأخْرَى -، أن تقف في بعض المواضع في مواجهة مع ذاتك وهي بحد ذاتها مواجهة دموية بل يصفها البعض بمجزرة باعتبارها تتطلب الجرأة والشجاعة والتبصر، مواجهة تقررها لأجل تلك المساءلة البسيطة فيما يتعلق بموضوع بسيط، موقف أو ربما محادثة دامت ثواني معدودة مع غريب.
ها أنت تتخذ مجلسا، تستحضر صفاء الذهن كما تظن لسذاجتك وتبدأ بمد الذاكرة، فجأة تتدفق العبارات، تجد نفسك تفسر مرحبا كمرحبا، ولكن هل تعتبر كيف حالك؟ سؤال عن الحال حقا أم الاطمئنان على أن سوءا قد أصابك أم أنه اطمئنان لقلب أن سوءا لم يصبك، لنفترض أنه سؤال عن الحال، الجواب سيكون بخير أم الحمد لله!

انتظر، هل أنا التي خاطبتك أم أناي. أم أن أنا هي أناي ولكنني تلاعبت باللغة فقط بإضافتي لألف وياء لإسقاط -ما يمكن أن يلحق المقال من تُهَم حبريّة – عن ياقتي.

“لا وطن .. ولا منفى .. هي الكلمات”

– محمود درويش

 

 

1xbet casino siteleri bahis siteleri