رمضان: فن إِصلاح القلوب

غادرنا رمضان تاركا خلفه جملة من المواعظ والخواطر المجبورة، ذلك الشهر العزيز المبارك الذي يلملم شتاتنا، يلم جروحنا، يرمم تصدعاتنا، يدثرنا من رعب الحياة ويصلح ما تحدثه الأشهر الطوال في أرواحنا، هذه الأخيرة التي -مهما كبرت، شاخت ملامحها وتجاوز ظلها طولها- إلا أنها تظل قابلة للكسر والعصر بسبب ما تتجرعه باستمرارية مخيفة من مرارة.

طول أشهر السنة، نغوص بين معالم حياتية في غاية الضبابية، يوما بعد يوم، في كل سنة جديدة، تتراكم الذكريات بين دهاليز ذاكرتنا -مأساتنا المشتركة- وتجتمع صور رمادية اللون لتصبح معلقة على جدران أرواحنا البالية، لتتوالى بذلك مجازر لا رحيمة بيننا -نحن وذواتنا-. وإذ بنا نصبح في نقطة معينة ملقيين على حبل يشدنا لنهوي من أعالي خيباتنا، فيمسك بيدنا “رمضان”، مجرد كلمة كأنها حديث قيل ولم يقل بعد، الزمان كأنه ملاذ في خانة المكان وشيخنا الحكيم الذي يستقبلنا في أحضانه مهما عظمت خطايانا لأنه بطريقة ما يعلم ما تنطوي عليه صدورنا من حقائق بريئة.

وإن لأحب الأشياء إلى قلبي خلال رمضان، تلك الازدواجية الطفيفة التي تنطوي عليها الأجواء المغربية الرمضانية باعتبارها رهيبة في مجملها، هذه الأخيرة التي تجعل منا شعبا منفردين، مفعمين بطاقات طفولية كأنما لم نحمل بأسا في صدورنا يوما ومتميزين بتلك القدرة التي نجد بها لقسوة أيامنا معانيا منمقة حسناء تفيض موعظة وتفاؤلا، ونجعل بها من لغتنا حتى، عزاء يحضن قلوبنا التي وهنت من فرط الأحزان، المآسي والغصات التي نشهدها في الفترات الأخيرة.

مقالات مرتبطة

إن رمضان في وسط مغربي أصيل، لطالما كان شهرا يمزج بين فوضى الحواس وهدنة الفؤاد، صخب التجمعات والأسواق وسكون الروح بين تلك الأمواج يقودني إلى التساؤل كيف لنا أن نجد طمأنينتنا في طقوس اعتدناها في حياتنا اليومية كأنما نسمعها، نلحظها ونلمسها بمشاعرنا المتلخبطة لأول مرة، كيف يمكن للإنسان أن يسكن ضجيج فكره وحسه بجمل صاخبة في أسواق أسبوعية أو يومية، أو تساؤلات عابري السبيل، كيف ل (شحال داير التمر) أن تمنحني رفاهية ملامسة الجانب الحلو للحياة وليس التمر فقط، أو أن يربت على بأس قلوبنا بأس جديد مثل (مطيشة غلات فهاد رمضان)، كيف يمكن لأزمات الازدحام عند اقتراب موعد الفطور أن يطبطب على فراغ حركة السير في قلوبنا، كيف يمكن للغتنا حتى أن تحمل معانيا أكثر مما يمكن لها أن تتحمله، مثلا (شحال باقي للمغرب) أو (شحال راها الساعة) الذي يعتبر تساؤلا تتغير بذلته وغايته من شخص لآخر، ولكنه في معظم الأحيان هو سؤال قصير المدى، متواضع خفي يرتب جوابه حركاتنا المبعثرة في ظل تراكم المهام والطقوس خلال يومنا.

إن عاطفتنا تنهار حتى أمام محلات تفتح أبوابها منذ الصباح حتى المساء لأطفال لم يبلغوا سن الصيام بعد، لأننا نحرص على حفظ قلوب الأطفال في كفوفنا. فأصبحت بذلك أسائل واقعي؛ كيف تصبح أفئدتنا أفئدة طير محلقة بين الشوارع خلال رمضان، نبسط أجنحتنا فتسيل مهجتنا دمعا من هذه المشاهد العالية الدقة.

لربما يعتبر رمضان، لجملة منا إن لم نكن جلنا، الفرصة التي ننتظرها لنعيش رفاهية انهياراتنا بملامح يلبسها الثبات، الخشوع والعطاء، تلك الفرصة التي تخول لنا إعادة ترميم شخصنا جسدا وروحا، وتجديد إدراكاتنا، موازنة حساباتنا والإيمان بكم النعم التي نجهلها في حياتنا العادية : خالق عفو كريم نعود له عودة جميلة بعد زلات عديدة، لطف الله في مواقف السنة الفارطة التي نجونا منها بأعجوبة، بيوت الله نأوي إليها كلما ضاقت أرواحنا وحنت لمناجاة ربها من فرط الهم والغم، شعائر تمنحنا حرية الانتماء والتعبير، نعمة العائلة على مائدة مستديرة تتطلع لمشاركة أطراف الحديث وتوطيد الروابط في حلقة لامتناهية صعبة الفصل والكسر، نعمة التعاطف والكرم، نعمة الدعاء والتدرع لله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا ويرحمنا ويجعلنا من عباده الصالحين وأن يحفظ أهلنا وإخواننا وأخواتنا المسلمين والمسلمات… بعبارة أخرى الإيمان بنعمة الإنسانية رغم ما يفرضه الواقع من قيود اللاإنسانية.

رمضان، رغم البؤس الذي أصابنا، يظل هو ذاك الذي يمسح دموعنا ويشق وجوهنا بابتسامات الرضى والسكينة، ذاك الذي نغادر عتبته، خفيفي الظل، مفعمين بالطمأنينة والطاقة للاستمرار في معاركنا كأنما كسبنا السابقة كلها ونتطلع لنصر جديد.
إنه لمدهش حقا كيف يلقننا أنه يجب أن نكون حامدين على ما أصابنا وما لم يصبنا لأن الله يصنع حكمة في كل قدر يصيبنا، وأن العسر يليه اليسر وأن الله رحيم بنا لذا لابد أن يلي الخيبات، فرص نتفكه خلالها بالحياة.