أيمن العتّوم في كلمة

حق لنا أن نفرح؛ لأن في عصرنا مثل هذا الرجل الكاتب، روح إنسانية متميزة، مختلفة اختلافا كليا، متفردة في كل شيء، منزاحة انزياحا عجيبا عن أولئك الذين شفطهم التقدم الإنساني الرهيب، فانقادوا إليه انقيادا واتبعوه بفم مشدوه وأنياب بارزة كليث جائع يعاني ندرة الطرائد. لذلك أصبح الابتعاد عن هذا السرب، سرب ملاحقة الحياة المادية وتعليق السعادة على جدرانها حالة شاذة لا يقبلها العوام من الناس. وهم لا يدرون أن في كل أرض قاحلة تنبت وردة جميلة نادرة، هذه الوردة إذا اقتربت منها أو مررت بجوارها شممت الرائحة الطيبة، التي لا يمكن أن تصدر إلا عن هذه الفصيلة الطيبة من الورود ومن هذا النوع العتيق.

هذا الرجل الذي أحب أن أناديه بالمتميز عن عشرات الكتاب ممن قرأت لهم، وربما الذي قربه إلى قلبي وأعطاه هذه اللمسة السحرية زيادة عن كتبه، تلك الإضافة النوعية في ظهوره المستمر ونشاطه الدائم على وسائل التواصل الاجتماعي، وحضوره اللقاءات والندوات والمحافل الفكرية، ومواظبته على نشر المحاضرات في اليوتيوب -الفيديوهات- التي تحبل بالفوائد والأسرار، أسرار القراءة والكتابة، النابعة من قلب معطاء، شغوف بالكتب والمكتبات، يعيش فوق مكتبة ضخمة، تحتوي على ملايين الأرواح الميتة جسديا، الحية روحيا، فهو يعرف قداسة الحرف، والكتاب كان رفيقه منذ الصرخة الأولى.. وإن شئت فقل كتاب يمشي على الأرض.

خلق شاعرا فطرة وموهبة ولم يكتب لروح شاعريته أن تملك الآذان وتجد لنفسها مساحة كبيرة في سوق الشعر، لكن روائيته التي صنعها بنفسه أحدثت طفرة على شاعريته فكان ذلك الرجل الذي جمع بين الحسنيين، واستفادا منهما ليمزج بين الشعر والنثر في كتاباته. ولم تأت هذه الروائية من العدم أو الفراغ بل من الصدفة الناتجة عن إيمانه القوي بمقولة: “لن تكون كاتبا عظيما حتى تكون قارئا عظيما!” وقد كان!

قرأت من المذكرات والسير والرحلات القدر الذي أتاح لي أن أميز -هذه سبيلي- لأيمن العتوم عن سواها من هذا اللون الأدبي. ما زال في سن مبكرة على أن يكتب سيرة ذاتية تجمع شتات حياته المتفرقة بين القراءة والكتابة والسفر، ومع ذلك قد كتبها ولفها في ثمانمائة وثمانية وسبعين صفحة. نعم كل هذه الصفحات تحكي أكثر من نصف حياة العتوم، وليس حياته كلها، وما زال حي يرزق وما زال يكتب ويقرأ ويسافر ويجمع الكتب ويكتب يومياته كل يوم، وقد قال إنه أزيد من ثلاثين سنة إلى الآن وهو يكتب هذه اليوميات، ولم ينشر منها صفحة واحدة، وزاد على أنه إذا نشرها سيبلغ عددها ثلاثون مجلدا، في كل مجلد خمسمائة صفحة.

مقالات مرتبطة

حياة وأي حياة يحياها هذا الرجل! يخفق لها الوجدان هيبة ولطفا، ويقف لها تعظيما وإجلالا. أحب الحياة من باب القلم امتثالا واستجابة لقسم الله عز وجل {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} لقد كان القلم بالنسبة إليه أشرف مقصود وأنبل مأتي وسر من أسرار الوجود. وقلمه هذا فتح لحلمي المنزوي في مكان مظلم نافذة يرى منها النور لما ذكر في الصفحة ثلاثمائة وتسعة وستين من [هذه سبيلي]: “اليوم إذا كنت تشعر بتلك الارتجافة للقلب، وأنت تتخيل نفسك خاليا من الناس والوجود إلا القلم والورقة، فمعناه أن ذلك الإحساس الشفيف الذي يعيشه الكتاب تعيشه أنت، إنها خطوة هامة في الطريق إلى الكتابة. هذا ليس وهما؛ هذا ما كنت أشعر به في صغري حين بدأت أتلمس أول خطواتي في هذا العالم، وكلما كان الإحساس حارا أعطاك القلم من فيوضهن كلما وهبت له فؤادك وهبك هو فؤاده بالمقابل، وجعل أفكارك عبر الحبر السائل تتدفق تدفقا حرا عذبا”.

شيء ما جذبني إليه، شيء ما جعلني أميل إليه كل الميل وأنا لم أقرأ له حرفا واحدا من رواياته لكني قرأت [هذه سبيلي] وأدمنت مشاهدة برامجه كل يوم، لدرجة أن الغفوة تأخذني والسماعات في أذني يملؤها صوت العتوم الشجي، المتذبذب، ليعطي كل حرف حقه في المخرج. ربما يجمعنا الإحساس المشترك بالحرف، يجمعنا حب العربية وهوسها الذي يقتات علينا، والدماء التي تجري في عروقنا.

سيرة تلخص حياة غزيرة حافلة بالإنجازات والاستحقاقات، ينبوع يتدفق منه ماء زلال، قهوة بلدية عربية تفور فوق نار هادئة، تفوح منها رائحة تشي بلذة الاحتساء، وأن مذاقها لا يشوبه كدير. أعجبني أن أقدم وصفا كهذا لأن عشرين كوبا من القهوة في اليوم لا يكفيه، مصنوعة باليد فهو لا يؤمن بآلات القهوة، لأنها في رأيه تقدم -فقط- مستحلبا للقهوة!

تخلص من الهندسة ليعتنق مهنة التدريس وهي أنبل وأشرف مهنة يمكن أن يمتهنها الإنسان “فكاد المعلم أن يكون رسولا”! واختارها لأنه لا يريد من الحياة تجميع المال وتكديسه؛ وإنما مسعاه فيها بقاء كلمته في الوجود بعد وفاته، ولا يهمه كيف عاش أو كيف يعيش. فلا يهتم أحد كيف عاش أبو الطيب مع حاجياته البيولوجية. ماذا شرب وماذا أكل، أنام على الحرير أم على الحصير! ذكر [أحمد أمين في فيض الخاطر، ص: 29]: “إنما يصلح للتعليم قوم قنعوا من دنياهم بأن يعيشوا على ضروريات الحياة، وفي حدود ضيقة من الرزق” وذكر كذلك في الصفحة نفسها: “ليس يصلح للتعليم من طلب بتعليمه الغنى والجاه”.

عرف سبيله في الحياة منذ بداية تشكل وعيه، منذ الولع الأول بحفظ الشعر والشعراء، فراكم سيرورة شعرية جعلته يقذف حمما صغيرة من بركانه الشعري؛ فالشاعر الذي يولد والفطرة معه يحتاج -فقط- إلى أن ينبش على حراشيف هذه الفطرة ليخرج ذلك الجني فيضرب بعصاه السحرية حتى يخلق نبضا ونظما. ولما تقدم في السن بدأ معجمه يتسع وذخيرته تتكون، وحركية المعنى تتطور في نفسه تطورا تحول بعد ذلك إلى فيض داخلي؛ فالبئر حينما يمتلأ عن آخره يفيض. ذلك هو أيمن العتوم!

1xbet casino siteleri bahis siteleri