اختلاف يفسد للود قضية
إن أكثر ما يُحبط الـمُجاهد منا – البطلُ، صاحبُ الموقف، الـمُدافعُ عن القضية – ليس احتمالُ خسارة المعركة ولا فشلُ التخطيط لها ولا هزيمتُه في آخر المطاف، وإنما ابنُ دينه وابنُ عروبته الذي يُفترض أن ينصُره ويقدم الدعم إليه، فيجدُه مُنحازاً إلى طرف يعلمُ العالم بأسره أنه مُستبدٌ ظالمٌ.
إن ابنَ مِلَّتِكَ هــذا، ينتظرُ منك شيئاً بسيطاً طبيعياً ومُــعتاداً، مثلاً أن تُبــارِك جُهوده التي يحاول العالم دحضها بأساليب مختلفة، فلا يكون لك أن تظلمه أنت الآخر، لا يكون لك أن تكون أنانياً مصلحجياً، لا يكون لك أن تنحاز إلى طرف لا تجمعك به لا ملة ولا دين ولا عقيدة، لا تلتقي معه لا في العدالة ولا في الحق ولا تتوافق معه في أية صفة. وليس لك أن تكون محايداً في هذه المعركة أيضاً، معركة نصرة الأقصى، لأن الحياد هنا جُـبـْنٌ وتعاونٌ على الإثم والظلم والطغيان ودحضٌ للحق.
وإن في هذه المعارك ليس هنالك طريق وسط، لا يوجد حياد، إما أن تنصر الحق أو أن تتبع الباطل، هما طريقان اثنان لا ثالث لهما وأنت تختار، أنت وما يمليه عليك ضميرك -إن كان لك ضمير-. ستخبرني أنك مختلف وأن الاختلاف لا يفسد قضية للود الذي بيننا، وسأجيبك بأن الاختلاف في قضيتنا هذه بالذات، قضية عقيدة ودين وترابٍ طاهرٍ وكرامةٍ، يفسد ألف وِدٍ، ويجعلك إما في أعلى قمم الكرامة أو أن تعود مُهاناً ذليلاً في نظري.
لا يمكنك أن تأتيَني في وسط المعركة، في طريق يكاد يوصلني إلى حلم منتظر، إلى انتصار موعود، لتخبرني أن أتراجع، أن تحثني على الخوف وأنا في أمس الحاجة منك إلى قوة وتشجيع على السير قدما، أن أستنجد بك لتخبرني عن ضرورة الرجوع خطوات إلى الوراء، ببلادة عقل تقترح علي الالتهاء بأخبار ومشكلات بلدي، عوض كَنِّ المزيد من الأحاسيس الزائفة -كما سميتَها أنت- لدولة ضعيفة -كما جاء على لسانك- تبعد عني بأكثر من خمسين ألف كيلومتر -وهي في حقيقة الأمر أقرب للقلب منك- فلِجهلك ما علمت أن الحب والرأفة والتضامن والرحمة والإنسانية والدعوة إلى قليل من العدل، ما جاءت بالمساحات أو المسافات. تتفوه بمزيد من التفاهات والحماقات والتُّرَّهات لتخبرني بأنها دولة تفتقد إلى الحق في المقاومة، أنها منزوعة من الحق في الثورة، وأن حلم التحرير سيظل حلما لأنها في قبضة الأقوياء الذين لن يتنازلوا عن مصالحهم حتى ولو خلفوا من الدمار دمار الأرض الواسعة والكواكب المجاورة.
تركن إلى صفوف قتلة الأطفال والأحلام، فتنفي عن دولتي الحبيبة جميع الحقوق، ثم تخرج عن موقف الحياد فجأة لتتحيز إلى طرف عدو لي ولك، إلى مستبد قاتل ظالم، إلى مريض ناكر للمعروف. ما علمت أنه في زمن مر قد أتى حبواً، لاجئاً، محني الرأس، ذليلاً، طالباً للعفو، هارباً من مصير لا بد وأن يلحقه في آخر الزمان، لأن وصمة العار ثابثة عليه، مرسومة، موشومة لا تكاد تمحى مهما ادعى أنه مظلوم مكلوم خاضع لا يبتغي سوى عدلاً وإنصافاً.
عدو شأنه كشأن إبليس يوم أبى الانصياع لأمر الله، عندما رأى الله جل جلاله الخير في آدم وقلة الشأن في إبليس الذي رُجم رجماً وحقق طغياناً أخرجه من رحمة الله الواسعة أبد الدهر، إبليس النرجسي العاصي الحاقد الكاره الظالم. عدو متكبر، فيه من البذاءة ما لا تتقبلها نفس بشرية، ومن الظلم ما هو كفيل بتخليف دمارٍ ورُكامٍ لا يتخيله عقل، استبداد ناتج عن حقد لم يعرف مصدره ولا منبعه، يصب غضبه على أبرياء وهو في المعارك ضعيف، يخرج من الحلبة مطأطأ الرأس فيتجه إلى هدم الديار على رؤوس ساكنيها، يشتهي أن يُطَأطِئ رؤوساً كما تَطَأْطَأَ رأسه، وأن يصب مذلة مثلما صبت عليه المذلة صباً، لا يعلم أن المهانة والمذلة لا تليق إلا به، وأنه من الصعب عليه أن يجعل تلك الرؤوس الشامخة العالية تنحني لغير وجه الله جل جلاله.
أخبرك أن ليس عليك أن تنسى بأن المقاومة والتحرير حقان ثابتان في ظل الاستعمار مهما كان نوعه، ولو لا أنهما كذلك لــكُنَّا نحن بذواتنا عبيداً فرنسيين أو إسبان. أخبرك عن الكرامة وتحدثني عن المهانة، أشير لك إلى الانتماء وتخبرني عن التَّجَنُّس، تروي قصصا كثيرة عن سوء الحظ الذي لحقنا جراء التحرير، عن فرصة ذهبية ضاعت كادت أن تجعلنا ذووا شأن وقوة وسلطة، لأخبرك أن القوة جميعها في الأصالة، وأن السلطة والشأن كله يأتي من السيادة الكاملة على دولتك، أخبرك عن الثورة بفخر، وتخبرني أنت عن روعة التهجير، وعن أحلام مادية تود تحقيقها، أحبط طموحاتك بالحديث عن جميع أشكال التمييز لدى الغرب ضدنا، تمييز مبني على الدين والعقيدة والعرق واللون واللباس واللغة.. وتخبرني أنت عن مباني شامخة وأبراج وشركات وماركات عالمية ونجاحات زائفة. وما الغرض من الحضارة والتقدم إذا كان سيبنى فوق أشلاء الأبرياء ويدعم بوسائل إنتاج تلوثها دمــاء الشــهـداء؟ ما الغرض من الاتفاقيات والمعاهدات والقوانين والإعلانات الإنسانية والميثاقات إذا ما دُوِّنت فوق أوراق كان ولابد أن تطغى على بياضها حمرة الدماء يوماً؟ إن ما أظهرته هذه الحرب، لهو حقيقةُ أن الجميع هنا مصاب، إما في جسده أو في نفسه أو في إنسانيته، وإن المحظوظَ فينا الذي أُصيب جسدُهُ وحُفظت كرامته، وبأساً لمن سَلمت أجسادهم في الحين الذي أُصيبت فيه إنسانيتهم وبدت فيه أنانيتهم.
لكن دعنا نكون متفائلين، بالإخبار عن كون هؤلاء المتحيزين وكذا المحايدين، قد وُجدوا منذ الأزل، وكانوا في حضرة رُسُل الله جلّ جلاله، وحينما دعوا إلى القتال في سبيله وتحرير أراضيه المقدسة قالوا: {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، وإن الذي يشفي الغليل وسط كل هذا أن النصر موعود من الله العزيز، ومهما كثرت أعداد الأعداء سيكون الفوز في هذه المعركة الشريفة حليفنا، ألم يقل الله تعالى في كتابه العزيز: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] فذاك عزاؤنا فيمن هو منا وفضّل الركون إلى صفوف الباطل، وإن صفَّنا صفّ حقٍّ وأن الله سيبشرنا بذاك النصر الذي بات قريباً حتى وإن رأيتموه مستحيلاً، فحسبنا الله سيؤتينا من فضله إنا إلى ربنا راغبون.