المقاطعة لا تكفي…استغنوا عنهم!

عند كل عدوان على قطاع غزة، تتجدد الدعوة إلى مقاطعة منتجات مجموعة من الشركات المعروفة بدعمها لجيش الاحتلال الإسرائيلي، بشكل خفي أحياناً ومعلن في أحيان أخرى. وينتج عن هذه الدعوات وجود ثلاثة فئات: فئة أولى تستمر في هذه المقاطعة، وفئة ثانية لا ترى أي جدوى لهذه المقاطعة، وفئة أخرى تنخرط فيها لكنها تمل مع مرور الوقت ويتسرب إليها النسيان. ومن الطبيعي أن ينسى الإنسان، خاصة فيما يتعلق بأمور ليست معتادة في ثقافته وسلوكه اليوميين. لكنه، بالوعي العميق بالقضية وجذورها التاريخية، وبالقدرة على استيعاب عواقبها فكريا واستشعار خطورتها عاطفيا، وبالتحلي بالمسؤولية التاريخية التي يتحملها كل فرد بحسب موقعه، وبالشعور العميق بالانتماء للأمة، فإن المقاطعة لا يمكن أن تكون إلا دائمة ومستمرة، ما قام لهذا الكيان الغاصب وجود.

ويمكن التمييز في المقاطعة بين أنواع ثلاثة، فهناك مقاطعة الشركات الإسرائيلية، التي هي جزء من الكيان، وهناك مقاطعة شركات عالمية داعمة للكيان، وهناك مقاطعة جميع الشركات الغربية في حال توفر بدائل لها. ويُفسر تمديد هذه المقاطعة لتشمل كل الشركات الغربية وجودُ حلفٍ غربي معلَن لمساندة الكيان اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، مع غلق جميع النوافذ على إمكانيات مناصرة القضية الفلسطينية، والتضييق على كل من يُحاول ذلك، وتهديده في حريته واستقراره ومصدر رزقه.

وفي تقديري أن “فعل المقاطعة” هو أقل ما يمكن أن نفعله تجاه هؤلاء، خاصة في ظل توفر بدائل مقبولة جدا من إنتاجنا المحلي أو من إنتاج دول أخرى لم يثبت دعمها للكيان. نعم، قد تكون هذه المنتجات البديلة أقل جودة، لكنها تؤدي وظيفتها في نهاية المطاف. والحق أنه في هذا الوقت الحرج جدا، لا نملك رفاهية اشتراط توفر جودة عالية في كل شيء نستعمله أو نستهلكه في حياتنا. بل في ظل التواطؤ الغربي القبيح، لا نُعذَر في فعلِ أقل من هذا، بل قبيحٌ بنا أن نتقاعس عن فعل ما نستطيع فعله لنصرة إخواننا المضطهدين.

نعم، سيظهر فجأة بعض “العلماء” الذين يحترفون تثبيط الهمم، وتبرير التقاعس والهزيمة النفسية، وسيحاولون أن يثبتوا أن “فعل المقاطعة” لا تأثير ولا موجبَ له، لأنه على فرض مقاطعتك أنت، فهناك من سيشتري تلك المنتجات، ومن ثم فلا جدوى من المقاطعة. وهو تكرار للفكرة اليعقوبية اللعينة: “إذا لم أغصبك مالك وبيتك، فسوف يأتي مستوطنون آخرون يغصبونه”. وقد يحاولون تبرير ذلك التقاعس بأن هذه الشركات تملك العالَم وتُسيطر عليه. فبأي شيء يمكن أن يتضرروا به من مقاطعتك؟ وهذا المنطق يُغيّب كليةً البُعدَ الرمزي لـ “فعل المقاطعة”، كما أنه يُسيء ويخطئ في تقدير القوة الاستهلاكية للمسلمين، والذين يتعدى عددهم ملياري نسمة، فضلا عن بقية أحرار العالم من غير المسلمين في حالة انضموا إلى هذه الفعل النضالي. أي أننا نتحدث عن قوة استهلاكية حقيقية ومؤثرة. لكن، ومن أسَفٍ، كثير من المسلمين لا يستشعرون قوة تأثيرهم، وما يمكن أن يحدثوا من تغيير في موازين جريان الأمور.

مقالات مرتبطة

وتُترجم الأقوال المذكورة أيضا سلوكاً استهلاكيا سلبيا متجذرا لدى الكثير من الناس، وهو النزوع إلى الكمال في الاستهلاك، والعجز عن التخلص منه. لأن المواد والمنتجات التي تنصب المقاطعة عليها في غالب الأحيان لا تُـصنَّف حتى في التحسينيات، بل هي في أعلى درجات الكماليات في أكثر الأحيان. وحتى لو تعلق الأمر بشيء قد يَبدُو أن الحاجة تَمس إليه، فإنه بقليل من البحث سيعثر المرء على بديل لها. ورغم أنه قد يكون أقل جودة، إلا أن الفرق بينهما لا يرقى إلى درجة تبرر التعلق المرضي بمنتج بعينه. وفضلا عن ذلك، فإن المقاطعة في حقيقتها فعلٌ نضالي، وفي النضال لا بد من تضحية، كما أن جوهر فعل المقاومة هو التحرر من شيء مفروض. والسلوكيات الاستهلاكية اليوم من تلكم الأشياء المفروضة.

وتفسير ذلك أن سلوكنا الاستهلاكي وإن بدا لنا أنه نتيجة اختياراتنا الواعية، فإن الأمر عند التعمق فيه قد لا يكون كذلك، في ظل ما نتعرض له يوميا من هجمات إعلانية تَتعقّبنا في كل مكان. وليس خفيا اليوم أن كل الشركات الكبرى تُوظف اختصاصيين نفسيين واختصاصيين في التسويق والإعلانات للعمل على إبداع طرق في التسويق تحمل المستهلك على التعلق بمنتج معين، أو بعلامة تجارية معينة، وإيهامه بأنه لا انفكاك له عنها، أو الإيحاء إليه بأنه لا استقامة لحياته من دونها. وبالتالي فما تعتقده في سلوكك الاستهلاكي بأنه نتيجة اختياراتك، لن يكون مستغربا لو نازعك شخص فيه، وادعى أنك مجرد ضحية لموجة تسويقية معينة.

والمقاطعة، منظورا إليها من هذه الزاوية، هي فعل تحرري، تتخلص بها من سلوكيات استهلاكية قهرية، لتختار واعيا ما تستهلكه، وبها تتحرر من نزواتك وشهواتك الكمالية، باعتبار أن الأمر يتعلق بالكماليات في أكثر الأحيان كما ذكرت آنفاً. وبهذا الاعتبار، يصبح إنفاقك على أشيائك اليومية يتخذ صبغة نضالية وفعل تحرر ومقاومة. فأنت تثور على أوهامك من جهة، قبل أن تثور على الشركات التي تزود جيش الاحتلال بالمال من أجل الاستقواء على الأطفال والأبرياء والمدنيين في قطاع غزة.

وينضاف إلى كل ما سبق، أن من الأعراض الإيجابية لفعل المقاطعة هو الإسهام المباشر في ازدهار اقتصادنا الوطني، لأن استهلاك المنتجات المحلية سيُسهم في تشجيع الاقتصاد الوطني، وسَيدفع بالمستثمرين إلى إنشاء علامات تجارية بديلة، وسيقل الاستيراد، وهذا كله سيؤثر إيجابا على الاقتصاد الوطني. وبمرور الوقت، يمكن أن تصبح تلك المنتجات المحلية البديلة علامات تجارية عالمية، تنافس في السوق العالمية. وذلك كله سيعود علينا بالنفع على المدى البعيد، خاصة في ظل حقيقة مسلمَّة، وهو أن الاستقواء الذي يُمارس على دولنا اليوم، هو استقواء بالاقتصاد قبل السلاح، وأي نهضةٍ نأملُها تَمر من إقلاعنا الاقتصادي شرط لازم.

1xbet casino siteleri bahis siteleri