جيل النفسيات

572

قالت لي إحداهن يوما إن ابتلاء جيلنا ابتلاء نفسي، وعبرت عن الفكرة بقولها إنكم جيل النفسيات. مرت على هذه الجملة سنوات ليست بقليلة، ولكن المشهد بتفاصيله لا زال يتردد على ذاكرتي بين الفينة والأخرى مجبرا إياي على التأمل في هذه الفكرة جيدا.

كانت أطراف الحديث متبادلة بين نساء أربعينيات، وكالعادة معظم الكلام كان عبارة عن مقارنات وتحقير واستهزاء بجيلنا الحالي الذي ليس إلا جيلا فاشلا في نظرهم، غير قادر على تحمل المسؤولية أو على الصبر والتأقلم مع تقلبات الحياة، وأننا جيل جشع لا نرضى بالرغم من كل ما يُقدم لنا. على عكسهم هم الذين عاشوا ظروفا صعبة ولم توفر لهم الشروط التي وفرت لنا اليوم. فنحن جيل قد ولد بملعقة ذهبية في فمه، أما هم فقد قطعوا أميالا طويلة لكي يصلوا للمدرسة، وكانوا يضطرون لبذل مجهود جبار لكي يحصلوا على الماء العذب، هم من تمكنوا من النجاح وهم يحضرون للامتحانات وينجزون تمارينهم على ضوء الشموع.

قاطعت إحداهن الحديث معلقة: هذا صحيح، لقد قضينا طفولتنا ومراهقتنا في زمن ظروفه المادية صعبة، لكننا كنا سعداء. في حين أن شباب اليوم أنعم الله عليهم بنعم مادية كثيرة، لكنه ابتلاهم بكل ما هو نفسي، ففي الماضي لم نكن نسمع عن الاكتئاب أو عن الانتحار، بل لم نكن نعرف معناهما حتى.

أنهت المتكلمة حديثها بمقاطعة من إحداهن بتعليق لا يمت لموضوع النقاش بصلة، ليستكملوا الموضوع الجديد بكل سلاسة دون العودة لأصل النقاش كعادة النساء. لكنني لم أركز في ما قيل من بعد ذلك، كانت قد استوقفتني تلك الفكرة وأسرتني، ليس لأنها جديدة علي ولا لأنها شيء خارق للعادة، فقط لأنها جاءت على لسان شخص غير متوقع على شكل مواساة وطبطبة لجيل لطالما اتهم بالفشل.

جاءت جملة بسيطة لتدعم جيلا بأكمله وتربت على كتفيه. بيت القصيد في هذه القصة بأكملها ليس صراع الأجيال، بل إنه الفرق الشاسع بين العامل النفسي والمادي، حيث إن هذا الأخير رغم ما يتركه في النفس من حاجيات لم تلبى ومن نقص… إلا أن أثره لا يكاد يرى أمام الندبات التي يخلفها العامل النفسي، فمثلا قد ينسى الطفل صفعات أمه ويواجه ضرب معلمه له بابتسامة شامخة. وتأتي كلمة جارحة لتحطمه وتهوي به إلى الدرك الأسفل من الذكريات السيئة لتحفر لها مكانا هناك محتفظة معها بجزء من ذاك الطفل، رغبة منها بأسره هناك ليعود كل مرة.

اليوم أصبحت تركيبتنا النفسية أكثر هشاشة، أصبحنا نهزم أمام نظرة، كلمة، ذكرى، حلم موؤود… قد يستصغر البعض هذه الأشياء ويراها ضربا من المبالغة لكنها ليست كذلك. فالمرء يخوض سلسة من الحروب النفسية التي لا يراها أحد، يواجه سربا من الضغوطات التي تستنزف طاقته دون انتباه أحد. لذا تلك الكلمة التي نراها شيئا تافها قد تنغرز في قلبه كسكين حاد، ونظرة واحدة قد تزلزل كيانه وتهد لبِنات نفسه المنهارة التي يحاول ترميم ما بقي منها.

1xbet casino siteleri bahis siteleri