الشرق الأوسط على صفيح غزة: بين إيقاع التقسيم وزخم المقاومة!

485

إن الدارس للتاريخ عبر محطات الوصول السابقة حتى هذه اللحظة ما إن يجد فيها تركيزا قويا على  الشرق الأوسط، حتى يطرح الكثير من التساؤلات أبرزها: ما هو السر وراء هذه المنطقة؟

على الرغم من أن مصطلح الشرق الأوسط فضفاض جدا، حيث إنه هناك للقُطر والحدود في هذه القطعة الجغرافية الشاسعة طابع خاص حسب الأهداف السياسية والإقليمية للدول التي تستخدم هذا المصطلح، وبالتالي فإن الدخول في معترك تحديد المساحات الممتدة في المفهوم سيُضَيع علينا الهدف الرئيسي من هذا المقال، وبه آثرنا التركيز على ما يهم المتلقي نحو قلب الشرق الأوسط هو العالم العربي والإسلامي.

وعبر التاريخ؛ اعتبر الشرق الأوسط محطة اهتمام وتركيز الحضارات الكبرى القديمة منها والحديثة أيضا، بدءاً من الاهتمام الفارسي، فالإمبراطورية الرومانية، وتتالت بعدهما اهتمامات العالم مروراً بفترات زمنية رئيسة عديدة، كـان آخرها -ولا زال- اهتمام الاستعمار الأوروبي الحديث وإنشاء الكيان الصهيوني الذي يُعتبر امتدادا للهيمنـة الإمبريالية الغربية مغروسا بين العرب بعد إنهاء الحكم العثماني.

وحيث إن قلب العالم هو الشرق الأوسط، وأن الذي يسيطر عليه سيسيطر بالتأكيد على مجريات الأحداث الكبرى، وسيكون له دور محوري في تقرير مسارات العالم، على نحو ما تحدث عنه حزب المحافظين البريطاني كذلك في مؤتمر سري له، شارك فيه رئيس الوزراء البريطاني آنذاك “هنري كامبل بانرمان” عام 1905 وبحضور نخبة من الاستراتيجيين والفلاسفة، الذين أجمعوا على أن الشرق الأوسط ببحره الأبيض هو الشريان الحيوي للاستعمار على اعتباره الجسر الذي يصل الشرق بالغرب، وأنه واصلة عقد القارات القديمة الثلاث: الآسيوية والإفريقية والأوروبية، وملتقى طرق العالم وممراته المائية الرئيسية وقلبه النابض باحتياطيات هائلة من نفط وغاز ومعادن نفيسة، فضلا عن تنوع جغرافي وتضاريسي مهم وأيضا مهد الشرائع السماوية والحضارات القديمة .. ومن يسيطر على القلب يسيطر على الجسد، ضمانا لسيادة الحضارة الغربية على العالم وإيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الغرب الاستعماري على المنطقة إلى أطول أمد ممكن.

وقد ظلت وثيقة كامبل منذ عام 1907 دعوة استراتيجية لصناع الحروب وسادة المال الغربي للسيطرة والهيمنة على الشرق الأوسط وتجزئته وجعله كيانات صغيرة تابعة محكومة، ورغبة جشعة لإعادة تقسيم العالم بما يخدم مصالح المشروع الإمبريالي قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، مع توظيف مختلف الأدوات لتنفيذ المشروع التوسعي والتفكيكي لتركة السلطنة العثمانية المريضة إلى دول قومية متجزئة تخدم نظام الفصل بين شقيه الآسيوي والإفريقي المتمثل في ما سمي بـ: “البافر ستيت” وهو كيان قوي ومتفوق وحاجز بشري غريب يُشكَل في السواحل الشرقية المتوسطية، وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار تكون عدوة لسكان المنطقة.

وعلى الرغم من أن “وثيقة كامبل” تفتقد للأدلية القطعية على ثبوتها في الأرشيف البريطاني والمؤخذات العلمية والإعلامية على الاستدلال بها دون وجود أدلة قاطعة عليها، إلا أن مسار الأحداث على الأرض يدعم مضامينها من خلال إصدار الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى مجموعة من القرارات الموثقة والوثائق التاريخية التي صدرت بعدها كالوعد البريطاني “بلفورد” بمنح اليهود موطنا له في فلسطين واتفاقيات “سايكس بيكو” و”سان ريمو” و”فرساي” و”سيفر” و”لوزان” لتقسيم الشرق الأوسط إلى دول قومية متناحرة تخدم استقرار الحاجز الاستعماري وازدهاره وتطوره على حساب شعوب المنطقة وأنظمة عيشها وتدهور اقتصاداتها. وقد تم الأمر بعد ثلاثين سنة من القمع البريطاني المحتل للشعب الفلسطيني، تأسس الكيان الإسرائيلي في شكل “دولة وظيفية” فرضت واقعا جيو استراتيجي يدفع بالغرب إلى إمدادها للتحكم في تلك الشرايين الحيوية وخدمة مشاريعه الاستعمارية حصارا ومنعا لامتداد النفوذ الصيني أو الروسي وتواجدهما في الشرق الأوسط.

وقد رأى الدكتور عبد الوهاب المسيري وظيفية الكيان الإسرائيلي بأنه اتجاه منهجي قد بنته الصهيونية الغربية، بحيث يتحول إلى دولة تأسست عن طريق تحويل جماعاتها الإثنية والدينية المتطرفة إلى أدوات وظيفية تدين بالولاء للغرب الأمريكي والبريطاني بالخصوص، وتنظر لخدمة مصالحه بنظرة تعاقدية، ويزداد ارتباطها العاطفي والثقافي والاقتصادي للدعم الغربي، ويتسم أيضا بالبرود والحياد في علاقاتها حسب الأحداث وبما يتناسب مع حماية مصالحها ومن منظور نفعي خاضع لحساب الربح والخسارة، مع إدامة العنف في المنطقة كنموذج جزئي ومحدود وكسياسة انتهجتها الإمبريالية الغربية ضد العالم العربي والإسلامي، حيث اعتبر ذلك الدكتور منير شفيق أنه من الثوابت في تعاطي الغرب مع الشرق الأوسط؛ هو “العنف”، الذي يتخذ شكلين أساسيين:

– الأول: العنف الجزئي التاريخي خلال فترة الاستخراب (الاستعمار)، والثاني: العنف المستدام؛ الذي كان من خلال تصدير الكيان الصهيوني والهجرة اليهودية نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة وإنشاء دولة البافر ستايت التي نمت في ظروف عنيفة عرفت تناقضات داخلية بين مكوناتها دفعتها لخوض غمار الحروب مع الدول العربية وفصائل المقاومة الفلسطينية منذ القرن الماضي، مع ضمان الغرب لهذا الاستمرار من خلال توفير عاملين مستدامين هما:  الدعم الإمبريالي والغياب العربي الإسلامي.

وإلى جانب تمويل عمليات الإبادة والعنف الصهيوني على الأراضي الفلسطينية، فإنه من جانب آخر لم تتوقف التدخلات الغربية خاصة الأميركية منها في تدبير المشاهد الاقتصادية والسياسية لدول العالم العربي والإسلامي ورسم حدوده بما يضمن لها الريادة في الشرق الأوسط خاصة، وحصر النفوذ الصيني والروسي الرافضين لأحادية القطبية على العالم التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية بدعم من حلفها الأوروبي، مخلفة صراعا دمويا بين المعسكرات الشرقية والغربية في المنطقة أنهك شعوبها وشردها بين لاجئ ومسجون أو مواطن مغلوب على أمره أمام الأنظمة الديكتاتورية المدعومة من أحد المعسكرين. حتى بعد انحسار مرحلة الاستعمار العسكري فقد ملأت الدول الغربية الكبرى الفراغ الذي خلفه الاستعمار الكلاسيكي السابق وتدخلت لتسيطر على عَصب الحياة الاقتصادية لمستعمراته العربية والإفريقية من خلال شركاتها الاستثمارية، وقواتها للحفاظ على نفوذها خاصة بعد أن أوجدت ظروف استدامة سيطرتها في دعم قادة عسكريين أو وحدات طائفية أو عشائرية ذات طبيعة وظيفية تتعهد بالولاء مقابل وصولها إلى سدة الحكم وإحكام قبضتها، وهو الأمر الذي تماشى مع مخطط بيرنارد لويس المستشار الأمني للشرق الأوسط بإدارة بوش منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ أعلنها صراحة سنة 2005 قائلا إن الحل السليم للتعامل مع العرب والمسلمين في العالم العربي والشرق الأوسط هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية والاجتماعية، وأنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات متناحرة تزداد انقساما من الداخل.. وقد ساهم بمعية غيره من الاستراتيجيين وبشكل كبير في تحقيق مطامع المحافظين الجدد الأمريكيين في إنهاء أي أثر للنهضة العربية الإسلامية، والقضاء على أي معارضة للأجندة الصهيونية.

وقد دون عالم الاقتصاد الأمريكي بول كريغ روبرتس هذا التصور في مقاله المفصل عن الشرق الأوسط خلال عدوان  سنة 2006 بعنوان “أمريكا متواطئة مع إسرائيل في الحرب على لبنان” الذي اعتبر أن وجهة النظر الأمريكية للشرق تنطلق من أنها لا تراه سوى مجرد قطعة جغرافية لا تاريخ لها ولا تراث لدى سكانها، وأنهم شعوب متخلفة وجاهلة قد توقفت الحضارة عندهم، بل تجدهم مجرد أدوات استعمالية لا يربطها سوى الماديات ولا تصلح سوى لاستهلاك للمنتجات الغربية التي يعتمدون عليها، كما أن الدوافع الاقتصادية وإنماء الثروة الشخصية هي الحافز الذي يجعل حكامهم ينصاعون بشكل أعمى للولايات المتحدة يخدمونها بولاء كبير، وربما بفضل هذا الواقع تجرأ شمعون بيريز بقوله: “أن العرب قد جربوا قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، ولم تكن هناك نتائج مرضية للمنطقة الملتهبة، ليجربوا قيادة إسرائيل إذن”.

ومما لا يدركه المخططون الغربيون بإداراتهم ولوبياتهم الصهيو صليبية وحلفهم العسكري، أنه رغم ما وصلوا إليه من إرباك للمنطقة العربية والإسلامية وتحويلها إلى ساحات صراع دموية مضطربة وهائجة، تُسفك فيها الدماء بلا توقف، وتعاني من آثار جائحة الفقر والتخلف العلمي والاقتصادي، وقد سلطوا عليها بأنظمة قمعية عنيفة، ومع ذلك فإن الغرب يتكبد خسائر فادحة في المعارك منذ خليج الخنازير والفيتنام وحرب الخليج والهزائم المتتالية في أفغانستان والعراق وما تكبدته في داخلها خاصة أحداث 11 شتنبر، وهو ما يؤكد على علامات الانهيار رغم ما تدعيه القوى الإمبريالية من تسلط وتحكم في النفوذ المطلق في المنطقة. لكن الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية في أصغر مساحة تسكنها أكثر كثافة ديموغرافية في العالم خلال الستين يوما الماضية أمام الآلة الصهيونية التي تحارب بالنيابة عنها، ورغم الدعم العسكري المتطور والتمويل المالي المستمر يفلق هامات المنتشين بالانتصار بأن جعل عباءة الهزيمة أثقل من ذي قبل، ليتكشف لدى العالم مدى سخف الأحلام الصهيوأمريكية المتورمة الخاصة بالشرق الأوسط الجديد، يحيل ذلك إلى تساؤل عن مدى تماسك محاولاتهم في إذلال ملايين العرب والمسلمين الذين يشتعلون غضبا بما لحق بهم من المهانة بعد أن تكشفت أمامهم مخططات التحالف الصليبي الصهيوني في تفتيت الشرق الأوسط؟!

1xbet casino siteleri bahis siteleri