آخر الرجال…

كيف تحوّلت غزة إلى أيقونة للتضامن الإنساني؟ هو سؤال ملحّ يطرح نفسه بقوة أمام المتتبع لما يجري منذ بداية العدوان على القطاع. حيث هبّ الآلاف من كل أنحاء العالَم للتضامن مع أهل غزة والتنديد بما يحصل لهم من تقتيل وإبادة جماعية من طرف الكيان الإسرائيلي. إذ لم تُفلح كل الآلات الإعلامية في ترويج الرواية الإسرائيلية وحمل الناس على تصديقها، وبالتالي إعطاء الضوء لها من أجل القيام بالمجازر الدموية كل يوم في قطاع غزة. ثمة بقية من ضمير يُغالب الموت، تقول المظاهرات في كل مكان. نعم، هي حياة أقرب إلى الموت، لافتقارها إلى القوة اللازمة لتغيير مجريات واقع الميدان في آجال معقولة، لكنها تظل حياةً على كل حال، وتعطي بصيصا من الأمل بأن العالم يمكن أن يتغير إلى الأفضل بقليل من المقاومة.

للجواب عن السؤال المفتتح به أعلاه، يمكن أن نُسقط ما يجري في غزة ونشبهه بما يدور حوله الفيلم المشهور: الساموراي الأخير، من إخراج إدوارد زويك وبطولة توم كروز. يدور الفيلم حول حياة جندي أمريكي يتم القبض عليه من طرف الساموري، في وقت كانت فيه الإمبراطورية اليابانية تحاول الانتقال إلى النمط الغربي الجديد، أعني إلى دولة صناعية حديثة. وسمي الفيلم بهذا الاسم لأنه يتحدث عن آخر الأشخاص الذي كانوا يحاربون بشرف، وكان يقدسون المروءة والكرامة، ولم يكن يهتمون بالفوز والخسارة، أكثر من اهتمامهم بالغاية من القتال: لأي غاية يقاتلون ويموتون؟

كان بطل الفيلم جنديا متهورا، يعاني من أزمات نفسية، بدون أي هدف يعيش من أجله. يتم القبض عليه من طرف الساموراي، بعد قتال أصيب فيه بنزيف حاد، وقد تكفلوا بإنقاذه وعلاجه، وعاش بينهم بعد ذلك. أعجب الجندي بأسلوب حياة هؤلاء المقاتلين الساموراي، حيث يعيشون فيما بينهم في أمن وسلام، ويدافعون عن بعضهم البعض، ويتعاونون على حماية ثقافتهم وحضارتهم التي تواجه خطر الاندثار وتغول نمط الدولة الصناعية الحديثة على الطريقة الغربية. كان اسم الجندي ناثان ألجرين، يجسد حالة الإنسان الذي ينبهر بالآخرين، بسبب حالة التيه الذي يعيشه، بسبب الضياع الأخلاقي وانعدام أية قيم توجه حياته وتضفي المعنى عليها. وقد أدرك أن التقدم المزعوم الذي أريد للإمبراطورية اليابانية أن تتحول إليه هو دمار للإنسان وإقبار لثقافة عريقة، وأن حياةً لا مبادئ ولا أهداف فيها، تبقى مجردة من أية قيمة، مهما بلغ التقدم التكنولوجي والاقتصادي الذي وصلت إليه.

من الوجيه أن يتساءل القارئ الكريم: وأين وجه الشبه بين هذا الذي ذُكر وبين ما يحدث في غزة وما أثاره العدوان على القطاع من موجات التضامن مع الإنسان الغزي؟ ولعل الجواب عن هذا السؤال يكمن في أن الإنسان من حول العالَم، تضامن مع أهل غزة، وخرج دفاعا عن قضيتهم، وتنديدا بالعدوان عليهم، لأنه وجد فيهم الإنسان الذي فقده في نفسه؛ الإنسان الذي يدافع عن أرضه وثقافته وكرامته بشرف، صامدا في وجه العدو، رافضا الاستسلام رغم التفاوت المهول في ميزان القوة وآلات الحرب.

إن الساموراي الأخير وغزة معا يعلماننا أن الموت باعتباره نهاية كل حي مخلوق، ولا بد منه في يوم من الأيام، يجب أن يحرص صاحبه على جعله موتا شريفا، لأن حياةً من دون هدف أو رسالة تبقى غير ذات قيمة، والموت أشرف منها. وهي رسالة لم تتوانَ غزة في إرسالها إلى العالم منذ سنوات. وكان طبيعيا أن يثير صمود سكانها تضامن الناس وانبهارهم. بل إن صمود أهلها شكّل صدمةً للإنسان الغربي الغارق في استهلاكيته وفردانيته، وقد أيقظ العالم من سباته، وكشف عن مشكلة حقيقية تهدد مستقبل الإنسان، وهو أن هذا العالم يسيره مجانين حمقى، وأن تفكيك المنظومات الأخلاقية ترتب عنه أن أصبح الربح المادي هو القيمة الوحيدة الثابتة، وإن جاء على حساب الإنسان، بل وإن كانت التكلفة هي إبادة جماعية لشعوب بأسرها.

لقد كان عبد الوهاب المسيري يقول عن عزت بيجوفتيش: [إنهم يكرهونه في الغرب، لأنه يُذكرهم بالنُّــبل الذي فقدوه] وأجِدُ أن الأمر مرة أخرى يتكرر مع أهل غزة، لكن من طرف الأشخاص العاديين في الغرب، لكن بصورة معاكسة. ذلك أن تذكيرهم بالإنسان الذي فُقد فيهم جعلهم يتضامنون وينبهرون بملحمة أهل غزة وصمودهم، رغم كثرة تقتيلهم وتجويعهم وقطع كل لوازم الحياة عنهم.

الإنسان الغزي أحيى صورة الإنسان النبيل ذي المبادئ والأهداف السامية التي توجهه، وتجعله في منأى عن الجبن والانجرار إلى حياة الاستهلاك والفردانية. الإنسان الغزي هو نموذج الإنسان ذي القضية، حيث عدالة القضية لا يمكن أن تكون محل منازعة من ذي عقل أو ضمير.

في الأخير، لم ينجح الساموراي الأخير في تحقيق أهدافه والبقاء صامدا في وجه موجة تشويه ثقافته ومحوها، واستطاعت اليابان الحديثة أن تتحول إلى دولة صناعية وتقضي على كل أشكال المقاومة التي تجرها إلى ماضيها الثقافي والحضاري، والذي لا يتلاءم مع النمط الحديث، ذلك لأن هؤلاء الساموراي لم يأخذوا بأسباب الانتصار، ولم يستوعبوا منطق القوة الجديد، لكن غزة ما زال تقاوم، وتحاول أن تواجه آلات الدمار والتقتيل بقدر ما تستطيعه من قوة، في حدود ما تتيحه لها إمكانياتها في ظل ظروف الحصار من جهة، وخذلان الأقرباء من جهة أخرى.

1xbet casino siteleri bahis siteleri