قبسةٌ من الوطن

هناك.. حيث تراقبنا الذكريات.. تطير النوارس.. ولم نُعِد قهوتنا بعد.. صباحنا قصيدة تبحث عن قافية شاردة، نهارنا حلم لا نصحو منه حتى صفعتنا رائحة الموت. في المساء نحكي للرياح عن غربتنا، وهذا الليل يلدغ القلوب بالخوف.. فالانتظارُ موتٌ بطيء.
-١-
نم هنا يا صغيري.. وانتظر.. سينمو من صدرك السلام وينشد.. ستسمع نداء الحيتان البعيد، لتمضي في دربك وحيدا.. فقد كبر فيك الحلم. نمْ يا بني، فقد جاءت ملائكة السماء لتضع وسامَ الحرية على صدرك، فحلّق عاليا عاليا، حرّا.. ملاكا.
هزيمُ الرّعد، هزيمُ الرعد يا أبي، ألن أشاهده وأخي بعد الآن؟ أريد لعبتي يا أبي، أين اختفت! افتح لي الشاشة لأتابع هزيم الرعد.
هزيمُ الرعد أنت يا ولدي، فلترعد أمام عدوك دون خوف، هذا ثأر أخيك وثأر جدك.. هذا ثأري وثأر جيل فجيل، هذا وطن يا ولدي.
يسمعُ صوت الوالد طازجا، كأنه معه، كأنه في داخله، “ارعد يا ولد ولا تبك”.. أيمسح الطفل عن وجه دمعة خائفة أم دما أحمرا ثائرا. لا تنحني أبدا للظلم، وأطلق سهامك. هذا أبوك شهيد، وأمك تهب الوصية عمرها.. وأنت يا صغيري سنبلة تدلت بالذكريات، تبتزك الأنقاض لتترك براءتك، وقد اندلعت فيك أصوات الراحلين حريقا.
“لا تسل عن سلامته، روحه فوق راحته، بدلته همومه كفنا من وسادته” يصيح المنشد عاليا، يضج المكان بكل شيء، خليط لا ينتهي من الأصوات، والطفل يَشب باكرا.
دمٌ هنا، دمٌ هناك، جثة هنا.. جثث هناك، “صامتٌ لو تكلم، لفظ النار والدم.” لا يَصمت الصوت في ذاكرته، ولا تهدأ العواصف في صدره.
“يا دامي العينين والكفين! إن الليل زائل”، يحضر درويش بجانبه.. يحادثه، يطمئنه.. ينظم له شعرا؛ “لا غرفةُ التوقيف باقيةٌ… ولا زردُ السلاسل!”. أيمسح عن وجهه دمعة الطفولة أم دمَ الجرح الغائر، ماذا يفعل طفلٌ صغير وسط الحرب، والوقتُ ضيق عن التفكير.. أنت سيدُ لحظتك، قُم وانتفض. خرابٌ في كل صوبٍ، جراحٌ لا تشفى، شهداء فشهداء، كل من يمشي على أرض غزة قد فقد حبيبا، فالأرض تشربت دم أبنائها، لينبت منها وطن.
“وحبوبُ سنبلةٍ تموتُ.. ستملأ الوادي سنابلْ!”، يبتسم وهو يسمع صوت الشاعر ينهي قصيدته. هذا أبوك، ظل يمشي معك، وفي كفيك دمه ودمع أمك، فلا أبجديتي تكفي لتصف واقعك، ولا واقعي قادر على كتابة أحلامك. نم هنا يا صغيري، سيضيء الطريق بعد قليل، بعد ساعة، أو بعد جرح.. بعد أسبوع أو بعد حزن. {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}
-٢-
نامي هنا يا ابنتي.. وانتظري.. فالورد رغم كل شيء يزهر..
-فتاةٌ سمراء بعيونٍ عسلية، يشع فيها الوطن، كأنها نجمةٌ رقيقةٌ تلمعُ وسط الظلام.-
مقالات مرتبطة
“امسحي دمعتك يا ابنتي، فلا يجوزُ للورد أن يبكي.” تُنصتُ لصوتِ الصدى يضج في داخلها. هات لي بسمةً وحلما، اهدني وردة ونشيدا، فأنا ابنة الوطن الحرّ، ألا تسمعني يا سيدي، أين أنتم.. ألا يوجد أحد يسمعني؟
-فتاةٌ سمراء بعيونٍ وطنية، لا تنسى وصيةَ الأرضِ، لتنادي بالهوية.-
دمٌ في كل صوبٍ، وجعٌ يلسعُ في القلب، مختلفٌ عما قبله، تتساءل؛ ما الذي اقترفناه لنرى كل هذا الخراب؟ “وضعوا على فمه السلاسلْ، ربطوا يديه بصخرة الموتى، وقالوا: أنت قاتلْ! “؛
تحاكي بصوتها المنكسر أنشودتها المفضلة، تراقب الموتُ يمشي بين الناس حقيقيا، ظلّ وحيد يمسك أيادي من يُحب، وأرواح تصعد السماء حرّة.
-فتاةٌ سمراء بعيون الحرية، تشمخ وحيدةً كأنها تُدافع عن شرف أمة. –
أمي.. أين أنت يا أمي؛ ألم يحن الصباحُ بعد؟ ألم يبق في البيت شاي، وقهوة.. خبزٌ قمحي وزيتُ زيتون، لقد حلّ الخريف وجاء موسم الزيتون؟ أمي.. هل تسمعينني، ألم يأت الفجر بعد؟ أمي.. “يا ريحة فلسطين، محلاها ريحتك”، خذيني معك، المكان موحشٌ هنا.. خذيني إليك.
– فتاةٌ سمراء عادية، وهي أشرف من رموز كلّ نظامٍ ودولة.-
“أنقذت كتبي، للي تعني لي كل اشي، بترافقتي في كل مكان”؛ حلمٌ في العينين، نبضٌ في الصدر حرّ، لم تكن قصة عادية، هي حكايةُ وطن تمشي على قدمين. وطنٌ حرّ بين وجنتين.
سينتظر الموت قليلا حتى تحكي قصتك.. فحياتك يا ابنتي كتاب لم يتجرأ أحد أن يكتبه.. قليلا قليلا، سنقتبس منك مواضيع للأحلام.. فنحن نمشي على الأرض حالمين.. دون أن توجعنا النهايات، فقد جرحتنا البدايات بما يكفي. {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37].
 -٣-
“لو رحل صوتي ما بترحل حناجركم عيوني على بكرا وقلبي معكم”؛ أترك للصوت في مخيلتي حرية الحديث، والزمن يتوقف لوهلة قليلة، لألقي تحية الحبّ على من وهب عمره للوطن، حُرّا سالما، شهيدا غانما.
السلامُ عليكم حتى تبلغوا الجِنان. ثم أرتب نفسي لأبعث لمن يَصمدُ رغم كل الجِراح، حرّا محبا للحياة، سالما ينتظر الموت.
السلام عليكم حتى تطمئن قلوبكم، ويغمركم دفء الحَنان. قبلةٌ على الجبين، و وردة بين ضفيرتين ؛ وقلبي عليك يا غزةَ الحُب والجمال. {وَالضُّحَىٰ (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5)}. [سورة الضحى].