غزة تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح

من مميزات الأوقات الحرجة في تاريخ الأمم والشعوب أنها تعيد الأمور إلى حجمها الطبيعي، سواء تعلق الأمر بالأشخاص أو المنظمات أو الدول. ففي هذه الأوقات تظهر حقائق الأشياء، وتغدو واضحة لكل ذي بصيرة، مهما حاول تجاهلها أو التغافل عنها. ولم تكن الحرب على غزة والعدوان عليها بالاستثناء من القاعدة؛ ففي ظل العدوان، ظهرت المنظمات الدولية في موقف لا تُحسد عليها، وانكشف بيننا أشخاص فقدوا كل شعور بالانتماء، ولم يكن لديهم أي إشكال في الاحتفال في أوقات المآسي، وإدارة ظهرهم للقضية التي عَمُوا عنها وصمُّوا وكأنَّ في أذنيهم وقراً. وفي مقابل ذلك، لم تتوانَ قلةٌ مبارَكة من الدفاع عن القضية، واتخاذ مواقف مشرفة منها، والصمود في الدفاع مهما طال الوقت.

وهذا المعطى يُعيدنا إلى التفكير في مفهوم الأمة، ويطرح السؤال عن جدوى الانتماء للأمة الإسلامية؟ وهل صار هذا المفهوم غير ذي مضمون واقعي؟
في الواقع، إن الشعور بالانتماء لأية جماعة، مهما كانت كبيرة أو صغيرة، إنما يقوى في ظرفين زمنيين متناقضين، وهما أوقات الحزن وأوقات الفرح. والحق أننا في السنتين الأخيرتين خَبِرنا نحن المغاربة الأمرين معا؛ فقد عشنا حدثين موجعين، الأول هو المتعلق بالطفل ريّان، رحمه الله، والثاني بواقعة الزلزال الأليمة في شتنبر من العام الماضي. وكلا الحدثين جعل الأمتين الإسلامية والعربية تتوحد في التضامن مع المغاربة. كما أننا خبِرنا كذلك حدثا مُفرحا يتمثل في تألق المنتخب المغربي في كأس العالم 2022 بقطر الشقيقة، وكان مناسبةً رأينا فيها كيف أن أفراح المغاربة تحولت إلى أفراحٍ مشتركة للعرب والمسلمين في كل بقاع العالم، شرقه وغربه. وشعرنا بحق أننا أمةٌ واحدة، أفراحها واحدة، وأتراحها واحدة كذلك.
وهذا يَنتقل بنا إلى السؤال الموالي: لماذا لم تُحقق قضية غزة هذا الإجماع العربي والإسلامي؟ ولم يتوحد العرب والمسلمون في الالتفاف حولها والدفاع عنها، وإعلان التضامن القوي معها؟ طالما أن الظاهر من القضايا المشار إليها أن هذا الشعور بالانتماء يظل كامناً في الوجدان العربي والإسلامي، ويحتاج فقط إلى حدث يُفجره.
إن جزءا من الجواب يَرجع إلى أن القضايا السابقة لا يكلف التضامن معها أي خسارة، خلافا للقضية الفلسطينية، فإعلان مشاعر التضامن وحده قد يكون مكلفا، بما في ذلك إعلان ذلك في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث إن الحديث عن القضية الفلسطينية يؤدي إلى حجب الحساب عن الآخرين، وبذلك يقل التفاعل معه. ولا شك أن المواقف المحرجة والمكلفة هي التي تصلح مسبارا لتقييم أي شيء، أما المواقف التي لا تكلف شيئا فإنها لا تصلح لذلك. ومن ثم، فإذا صح أن الشعور بالانتماء ما زال لدى الكثير من عموم المسلمين ومن عموم العرب كذلك، فإنه لا يرتقي إلى درجة تجعلهم مستعدين لتقديم بعض التضحيات من أجل هذه الأمة التي يشعرون بالانتماء إليها والدفاع عنها وعن قضاياها، فضلا عن أن هذا الشعور لا تقف وراءه إرادة سياسية متطابقة معه، تُعبر وتدافع عنه. وفي ظل فقدان هذه الشعوب لقرارها السياسي، وانفصال النخبة السياسية عنه، فإن هذا الشعور بالانتماء على ضَعفه يظل عقيما.

ولا شك أن الشعور بالانتماء الذي لا يزكيه العمل يبقى من غير مضمون حقيقي؛ لأن الانتماء لأي جماعة، مهما كانت، هيئة مهنية، أو سياسية أو ثقافية، قبل أن يقدم مزايا وحقوقا للمنتمي، فإنه يرتب مسؤوليات وواجبات على عاتقه، لعل أقلها واجب الانخراط والانضواء تحت لوائها. وليس الانتماء للأمة بخارج عن هذه القاعدة، ويصح القول بأن أي انتماء لا يجعلك ملتزما تجاه المنتمَى إليه لا يُعوَّل عليه.
ولعله من المثير للسخرية أنه في الوقت الذي كانت فيه أوروبا وراء تأسيس مفهوم الدولة القطرية، وتصديره إلى العالَم الإسلامي بتقسيم الدول الإسلامية إلى دويلات متنازعة على الحدود، وزرع الكيان الصهيوني في المنطقة، لتعزيز هذا الانقسام العربي والإسلامي، والحيلولة دون أي اتحاد بينها. وفي هذا الوقت الذي كانت العرب تتقاتل وتكرس سياسة تقسيم المقسم وتمزيق الممزق، كانت دول أوروبا تتوحد من جديد، مكرسةً مفهوم الأمة الواحدة ذات المصير الواحد والمشترك، بالاتحاد سياسيا واقتصاديا وعسكريا.

ومن أعراض هذا العدوان على غزة أنه كشف لشعوب أوروبا حقيقة أزعجت الكثيرين منهم، وهو أن دول الاتحاد الأوروبي مع أن بعضها هي دول كبيرة، كبريطانيا وفرنسا وألمانيا، أصبحت اليوم مجرد أدوات في يد الولايات المتحدة الأمريكية، فهذه الأخيرة هي التي تحدد المواقف التي يجب اتخاذها، وكأن أوروبا فقدتْ قرارها الحر والمستقل. فمع أن دولا أخرى كإسبانيا وبلجيكا وإيرلندا اتخذت مواقف مغايرة من القضية، وأدانت العدوان الإسرائيلي، إلا أن مواقف هذه الدول لم يكن لها تأثير على الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي وبريطانيا. فظهرت الولايات المتحدة الأمريكية على أنها صاحبة الأمر والنهي في العالم، وأن الآخرين يسيرون في ظلها، مقتفين أثرها. ولم يكن موقف أمريكا مفاجئا لأحد؛ فإسرائيل صنيعتها، وشرطيها في المنطقة، وكان طبيعيا أن تتولى حمايته وتقديم كل ما يحتاجه من وسائل الدعم العسكرية والمالية والسياسية.

مقالات مرتبطة

ومما أعادته الحرب كذلك إلى حجمه المنظمات الدولية، والتي كانت يُحسَن بها الظن، ويُعتقد أنها تسعى إلى نشر السلم وإدامة انتشاره في العالم، كمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، التين تبين بالملموس أنهما منظمتان صوريتان، لا دور لهما ولا تأثير فيما يجري في العالم، ما لم يتطابق ذلك مع إرادة الولايات المتحدة الأمريكية، أو روسيا في بعض الأحيان. فقد كانت هذه المنظمات عاجزة تماما عن أن يكون لها موقف مؤثر في مجرى الحرب، ولو بإدخال مساعدة إنسانية من غذاء ودواء إلى قطاع غزة، فضلا عن أن تكون لها القدرة على فرض إيقاف الحرب نهائيا رغم مرور أكثر من شهرين إلى حدود كتابة هذه الأسطر.

وعلى الرغم من هذا، فإن لقاءات الجمعية العامة للأمم المتحدة حول غزة يمكن اعتبارها مقياسا لرصد مواقف الدول من القضية، ففي المشروع الأول الذي عرض عليها من أجل وقف إطلاق النار، صوتت مائة وعشرون دولة على مشروع وقف إطلاق النار، وبعد شهر من الحرب، تم عرض مشروع آخر صوتت عليه مائة وخمسون دولة،  ما يدل على تعاطف متزايد من العالَم مع أهل غزة، وتغير طفيف في مواقف دول العالم، خاصة بعد تزايد الضغط الداخلي عليها من طرف شعوبها التي وعَتْ جيدا أن ما يقع لأهل قطاع غزة هو إبادة جماعية كاملة الأركان، وأن مقاومة هؤلاء الشجعان، ليست مجرد دفاع عن الأرض، بل هي في المقام الأول مقاومة للاستكبار والاستعلاء العالمي، بقيادة الولايات المتحدة، الذي لا يُدافع إلا عن قيمة واحدة، هي المصالح المادية والاقتصادية.

ولذلك، يمكن القول بأن استمرار تضاؤل هذا الدعم لإسرائيل يُؤذن بقرب نهايتها، ويجعل تنبؤات عبد الوهاب المسيري بأن إنهاء الوجود الإسرائيلي في المنطقة يمر عبر طريق قطع الإمدادات الغربية لها، قريبة التحقق، ذلك أن الكثير من الدول، الأوربية منها خاصة، بدأت تُعيد تقييم علاقاتها بإسرائيل، بعد الشعور بالعبء العسكري والاقتصادي التي تمثله إسرائيل عليهم، فضلا عن العبء الأخلاقي بمشاركتهم في مجازرهم على غزة. ولذلك فاستمرار الصمود في الحرب من طرف المقاومة مهدد للوجود الإسرائيلي بشكل كبير، لأنه يهدد بقطع قنوات الإمداد الغربية له، والتي بفضلها يستمر الوجود الصهيوني.

وفي انتظار أن تتحقق هذه الغاية، ستبقى المواقف من جرائم الاحتلال إما وصمة عار في جبين الممولين والداعمين لها من الغرب وغيره، وفي وجه الصامتين والساكتين عنها، فيما سيسجل التاريخ أن أشراف وأحرار العالَم لم يتوقفوا يوما عن إدانة هذه الجرائم، والتنديد بها وبالتواطؤ حولها. وسيسجل كذلك أن اليمن، وهي دولة صغيرة تمزقها الصراعات، اتخذت مواقف مشرفة من العدوان، وقدمت ما تستطيعه وما لا تستطيعه من أجل نصرة الفلسطينيين. وإذ يقوم اليمنيون بهذا الواجب، فإنهم قد جددوا التذكير للشعوب العربية بأن تسعة أعشار مشاكلهم في غياب الإرادة السياسية لحل مشاكلهم، وفقدانهم لقرارهم السياسي الحر والمستقل.