لقد توافقت الآراء على أن أهل فلسطين وأهل غزة، لا شك أن لديهم قوة أكبر من هذه التي يمتلكونها، القوة المادية البادية للناس، وأن صمودهم وثباتهم، وعزيمتهم واستمرارهم في الكفاح والنضال، ليس مرجعه التمويلات المنسوبة إليهم، أو الآليات الممَلّكة عندهم، وإنما بشيء فوق ذلك كله؛ شيءُُ يتحدى الأفق الضيق في الدفع للقتال، والوقوف أمام الظلم والعدوان. وأن الغربيين انبهروا بما يتحلى به رجال المقاومة، ونساؤها، من قوة في التشبث بالفكرة، والتمسك بالتحرير.
فتبادرت إلى أذهانهم الأسئلة الحرجة، التي ما فتئوا يتمخضون في إيجاد جواب لها، فكان فيها الجواب قاصرا، أو السؤال مقبورا إلى حين وجود مؤشرات تبدي قبسا من نور الجواب.. وها هي قد بدت لهم كقمر منير ساطع الضياء، في طوفان الأقصى، طوفان استرداد الأنفة والعزة، طوفان غربلة المفاهيم، ومراجعة المسلمات البائدة والقاصرة والظالمة اللاعادلة، فتحرك فيهم منطق الموضوعية، حيث إن هول الحدث، قد وقع على منطق العقل، دون أن يكون له الخيار في التلكؤ في الفهم، أو في الهروب من الاستيعاب. فجعلوا ينقبون في مكمن القوة، ومربط فرس هذه المقاومة، فما وجدوا إلا عقيدة راسخة حسبوها هينة وهي عند الله عظيمة، عقيدة تتحدى الجبال الراسيات الشامخات التي تعرقل السير والمسير في طريق الحرية.
إيمان متجذر في قلوب صغيرهم وكبيرهم من دون استثناء، إيمان يعجب منه الإنسان، ويتمناه المؤمن، ويتأمل فيه العالم. كيف بهذه الابتلاءات جميعها ألا تضعف خطواتهم وطريقهم، ولا تقصم ظهورهم، وترجعهم إلى الركود والخمول والتخلي! بل يقف العقل مشدوها بالإصرار كلما ازدادت المحن، وتكرر الفقد، وتعاظمت الجرائم ضدهم. فالشرارة تتوقد آنذاك فيضاف عليها قوة الثأر، مع عقيدة الجهاد المعتدل، الذي يحارب الاستبداد والاستبلاد، وتكبيل حريات الناس، والسطو على عقائدهم!
كيف بنساء فقدوا أبناءهم، حيث استشهدوا في سبيل القضية، ما زلن يرددن عبارات قوية الدلالة في معاني حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”، تجد ألسنتهن، لا بل قلوبهن، تنطق بمنطق الصبر والاحتساب لله، وتقديم هذه الروح للأرض بل للأمة، في إشارة إلى مدى قوة الإيمان، يعجز اللسان في وصفه. هم أناس، كنا نعتقد أنهم قد اندثروا وولى الزمان عهدهم، وأن تكرار نماذجهم، شيء مستحيل، وشيء من وقع الخيال، بات النموذج شبيها بوقائع كبرى في أحداث هذه الأمة الإسلامية منذ بداية الدعوة المحمدية. فكما خلدت معارك أخرى فإن طوفان الأقصى سيوضع في تاريخنا ضمن المعارك الكبرى التي تحول عندها التاريخ، مثل بدر، وفتح مكة، وحطين، وعين جالوت، وبلاط الشهداء، وذات الصواري، والزلاقة، والعقاب، وعمورية، وفتح الأندلس، وفتح سمرقند، وفتح صقلية، والقادسية، ونهاوند، ووادي المخازن، واليرموك. وغيرها من المعارك والأحداث التي أرخ بها المسلمون أيامهم، وتغيرت عندها الدنيا، وتحول بها التاريخ.
ومازالت الأحداث الطوفانية تغدق علينا بالدروس الظاهرة والدروس المتخفية، التي تمثل الصورة الطبيعية لعقيدة المسلم الحقانية، وتخرج لنا من القيم ما يظهر سموها عما يُتشدق به، من الإنسانوية.. وقد كان صبر وائل، الصحفي الصابر المحتسب الذي لا أزال أعجب من قدرته على التحمل، فهو تجل بشري لأسطورة لا توجد إلا في غزة العزة، اختاره الله للابتلاء العظيم والرزء الفادح والفقد المتكرر، فما كان منه إلا اليقين في الله بعد أن فقد أفرادا من أسرته، وإخوانه، بشكل غير إنساني.
العزّل برءاء، يستهدفونهم! معبرين عن دناءتهم وجبنهم وقلة حيلتهم، وهوانهم على الناس. فالصحفي الدحدوح وأخوه المستشهد رحمه الله وأسكن جميع إخوانه الملتحق بهم في جنان الخلد عنده، لم يتوانوا عن القيام برسالتهم، ومهنتهم الشريفة في إيصال صورة الحق، في واقع يسلب حق الصورة.. الدحدوح بثبات يردد كلمات مثل “معلش”، ومواقف مثل “عندما نحزن ونبكي فهي دموع الإنسانية والكرم والشهامة التي تفرقنا عن أعدائنا، وليست دموع الجزع والخوف والاستكانة”، يعلنها لا استكانة رغم ما مضى، لا خوف رغم التضييق والحصار… الدحدوح وأمثاله هم قدوة الشباب اليوم في الهمة العالية وفي التمسك بالرسالية، وبقوة الفكرة، والصبر كما صبر أيوب.
لا نجد ما نقول له وللمجاهدين في تلك الأرض المقدسة إلا أن استمروا على مقاومتكم وعلى ثباتكم وعلى صمودكم فأنتم تمثلون الأمة في طورها الحضاري الحالي، وتحملون بريقا وشمعة من الأمل المنير، الذي سيزهر بانبعاث جديد بإذن الله. قد يكون هذا الكلام في النظر حماس زائد، إلا أن أحداث الطوفان تؤكد زيادة في هذا الحماس.
فاللهم صبْر أهل غزة.. اللهم صبّرهم وارزقهم قوة العدة والعتاد، وقوة الثبات على الحق والطريق، اللهم وسدد خطاهم وقو عزمهم، وانحر كيد عدوهم. يا ذا الجلال، ذا العزة، تقبل الشهداء عندك، أكرمهم في جنات العليين، ينعمون فيها كيف شاؤوا، بعدما عاشوا في سبيلك مضطهدين.
تحيا المقاومة والمجد للشهداء.