مَن شابَه أباه فمَا ظَلَم
لعل لحظات الأزمات الكبرى ليست الوقت المثالي لممارسة عملية تفكير مستقيمة، لِما لظروف الأزمة من تأثير سلبي على منظورنا للأشياء، ويؤثر بالتالي على هدف رؤية الأشياء كما هي، لا كما نريدها أن تكون. لكن، لا يمكن المجادلة في أن الأزمات ظلت دوما حافزا ومحرضا على التفكير. إذ في أوقات الأزمات ينكشف القصور في فهمنا السابق للأشياء، وفي نماذجنا التفسيرية بتعبير عبد الوهاب المسيري. وإذا كان كارل ماركس يعيب على الفلاسفة أنهم طوال تاريخ الفلسفة اهتموا فقط بتفسير العالم وفهمه، عوضا عن محاولة تغييره؛ فإنه لا يمكنه أن يجادل في أن تغيير العالَم يستوجب شرطا مسبقا، وهو فهمه. فكيف يمكن تغيير عالَم لا نفهمه؟ وما الدافع الذي يمكن أن يدفعنا إلى تغيير عالم لا نفهمه؟
هذه المقدمة أريد أن أخلص منها إلى شيء أثار انتباهي واستغرابي منذ بداية العدوان على غزة، وهو أن الكثيرين اندهشوا وانصدموا وهم يتابعون الدعم اللامشروط للدول الغربية للكيان الإسرائيلي في عدوانه على أهالي القطاع. وتساءلوا: كيف يمكن لدول كبيرة، كانت تعتبر نموذجا لدول سيادة القانون وحقوق الإنسان، ومأمَل الكثيرين في الانتقال للعيش فيها، كالولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، كيف لها أن تسمح بارتكاب هذه المجازر البشعة مع قدرتها على وقفها؟ بل كيف أمكن لها الانخراط في دعم إسرائيل ماديا ومعنويا، والاستمرار في تبرير جرائمها؟
ومكمن استغرابي أنه بالاطلاع على تاريخ هذا الكيان ونشأته وجذوره، وبالاطلاع على تاريخ هذه الدول الغربية الداعمة له، يجعل استغراب العلاقة بين هذه الدول وبين الكيان الإسرائيلي غير ذي موضوع. ويتضح أن هذا الاستغراب راجع إلى عدم الفهم، ومن هنا ضرورة أن نفهم ما جرى ويجري؛ لأن أي تغيير في واقع الميدان، سيكون صعبا للغاية ما لم يُشفَع بفهم له. وإن كان من الصعب على المرء أن يدعي فهم كل شيء في مواضيع من هذا النوع؛ إذ تبقى مناطق فراغ مستمرة تحتاج إلى معلومات لتسديد الفهم.
إن ما تقوم به إسرائيل منذ أزيد من ثلاثة أشهر من جرائم إبادة جماعية وتهجير وجرائم حرب في حق الفلسطينيين إنما استوحته من أساتذتها في الحروب والاستعمار والهمجية بأساليبها القديمة والجديدة، وهي الدول الغربية، وهي بذلك إنما تحاول أن تصبح دولة على غرار تلك الدول؛ فهي نتاجهم وثمرة من ثمار عدوانهم. إنها الشجرة الخبيثة التي أصبحت تؤتي ثمارها وأكلها. وهي من منظور آخر فرع من أصل؛ والفرع تابع للأصل دائما. وأين يستقيم استغراب مساندة فرع بأصل، وتوطيده به، فضلا عن أن يستقيم استغراب تبعية فرع لأصل.
وبالعودة إلى تاريخ نشأة هذا الكيان، فإنه في الأصل من إنشاء الإمبراطورية البريطانية بغرض القضاء على الإمبراطورية العثمانية بتشتيت شملها المتكون من دول العالم الإسلامي، والذي خيف أن يلملم شتاته ويعود قوة كبرى ذات تأثير في العالم. كانت الخطة تتمثل في وضع هذا الجسم الغريب في المنطقة لكي يفصل بين الشرق والغرب. وإلى حدود 1967، كانت إسرائيل تتلقى الدعم من الدول الغربية الأوروبية بالأساس، وقد تولت بريطانيا دعم هذا الكيان في البداية، ثم سارت على نهجها ألمانيا وفرنسا وباقي الدول الأوروبية الكبيرة. ولكن بعد النصر الذي حققته إسرائيل في السنة المذكورة، أعني في حرب 1967، تبدّى للولايات المتحدة الأمريكية أن هذا الكيان قادر على أن يكون مفيدا لها في المنطقة، وتفطنت إلى أهمية الاستثمار فيه، ومن ثم أصبحت الداعم الأول له، دعما غير مشروط. وقد تزامن ذلك مع زعامة الولايات المتحدة للعالم وتراجع دور الاتحاد السوفياتي والدول الأوروبية الأخرى، التي استُنزفت في الحربين العالميتين.
وبالتأسيس على ذلك، يمكن القول بأن ما تقوم به حركات التحرر الفلسطينية من مقاومة لجرائم الاحتلال هو في جانب آخر منه مقاومة لهذه المنظومة الدولية الاستعمارية الكبيرة، والتي وإن انتقلت زعامتها من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، فإنهم جميعا على اختلافهم يصدرون عن فلسفة واحدة، ولهم أهداف واحدة، وفي أحيان كثيرة ينتهجون أساليب واحدة، والمتمثلة في نهب الدول وبيع الأسلحة لها، ونهب ثرواتها، وسلب سلطة القرار منها، وإفشال أية نهضة فيها، وتهجير أدمغتها، واستعمارها سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعسكريا، وممارستهم العنصرية ضد شعبها والاستعلاء عليه، وتنفير العالم منه.
وتاريخ هذه الدول الهمجي والدموي لا يمكن إخفاؤه، رغم محاولاتهم لإخفائه، والسعي إلى إقناع العالم بأنهم أسياد الحضارة والمدنية. ولعل أبرز مثالين على ذلك ما يلي:
أولها: تاريخ الدول الأوروبية المظلم في التجارة بالعبيد، فمن 1525 إلى 1866 تم تهجير ما يتراوح ما بين اثني عشر إلى ثلاثة عشر مليون إنسان من إفريقيا في إطار تجارة العبيد، ومات نتيجة الظروف السيئة في هذه التجارة ما يقرب من أربعة ملايين إنسان، بصفتهم عبيدا، ماتوا في ظروف غامضة. وقد كان العبيد عند هذه الدول تجارة رائجة ومربحة، وكان العبد يباع ست مرات في المتوسط، رغم أنهم اليوم يحاولون قفز هذه المرحلة من تاريخهم، والتعامل معها على أنها مرحلة سقطت من التاريخ. مرحلة قلت الكتابات عنها، أما التوثيق السينمائي لها فمعدوم، بحيث لن تجد فيلما وثائقيا أو دراميا يسلط الضوء عليها، فضلا عن أن يتناولها بالدراسة والتحليل. مرحلة يراد لها أن تنسى وتمحى من ذاكرة التاريخ.
ثانيها، إبادتهم للهنود الحمر في الولايات المتحدة، إذ تمت إبادة ما يقرب من اثنين وثلاثين مليون من الهنود الحمر، ولم يبق منهم إلا مليون شخص أو أقل. ولم يقتصر هذا الأمر على بريطانيا وحدها، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية أيضا عند استعمارها للمكسيك أبادت الكثير من الهنود الحمر، وقامت بالاستيلاء على مناطق عدة كـنيو مكسيكو وأريزونا وتكساس.
وقد كان من الطبيعي أن تقف هذه الدول كلها في صف إسرائيل، مدافعةَ عنها، ومبررة لجرائمها. وإسرائيل في البدء والختام ما هي إلا تلميذ نجيب لتلك الدول، ولتلك المدرسة الغربية العريقة في القتل والهمجية والوحشية، تتعلم منها وتقتبس من أساليبها. ويصدق عليها قول العرب: من شابه أباه فما ظلم. ومن ثم، لم يعد منطقيا أن نستغرب لماذا تسكت تلك الدول، صاحبة القرار في المنتظم الدولي، عما يحدث، وأن نتساءل عن سبب انخراطها في الحرب بشكل من الأشكال، لأن ما يحدث ببساطة جزء من عقيدتها ومن تاريخها. فتلك الدول قائمة في نموها وازدهارها الاقتصادي على الاستعمار ونهب ثروات الشعوب الأخرى.
وإذا فهمنا ما سبق، أمكننا الانتقال إلى البحث عما يمكن مراكمته من هذه التجربة المريرة التي تعيشها الأمة، لاسيما ونحن نلحظ أنها أنشأت مناخا جديدا في العالم، حيث بدأت هذه القوى الغربية في فقدان مصداقيتها ليس أمام شعوب العالم، بل أمام شعوبها بالذات. وبدأت فكرة الجنوب تنضج شيئا فشيئا، واقتنعت الكثير من الدول أنه لا يمكن لها أن تبقى في دور المتفرج، والقبول بهذه الأساليب الاستعمارية المتوارثة، في قرن جديد، حيث المعلومة تنتقل من أقصى جنوب الأرض إلى أقصى شماله في أقل من ثانية. وهو مناخ ولّد طاقة إيجابية للتغيير، وكان للمقاومة فضل كبير في ذلك، خاصة بانخراطها في صنع السلاح بذاتها، وابتكار مهندسيها لطائرات الاستطلاع، وتنفيذ هجمات معلوماتية سيبرانية. وللمرء أن يتصور كيف لو أن غزة حققت استقلالها وحريتها، على صغر حجمها، لأمكن لها أن تصبح دولة مصنعة، بل ومصدرة للسلاح.
إن هذا المناخ من شأنه أن يُسهم في تحول فكري مهم، يصبح فيه الناس مؤمنين بإمكان محاربة هذه الهيمنة الغربية التي تفتقد إلى أية مرجعية أخلاقية، والتي تحاول استيلاب العالم وثرواته لجعلها في خدمة مركزية غربية متقوقعة حول ذاتها، تمتص المال والإنسان من حول العالم، لتركزه في منطقة واحدة من العالم، ولتخدم بذلك مصلحة شعوب بعينها، وتُشيع منظورا واحدا للأشياء في العالَم. وكل مَن خرج عن هذا المنظور، ومن هذا الإطار المرسوم، أُلصقتْ به أبشع التهم، وحورب بكل الوسائل.