ما معنى أن يكون المرء باحثا عن المعنى؟

“إن الإنسان يستطيع بالاتجاه الذي يختاره أن يعثر عن المعنى ويحققه، حتى في موقف ينعدم فيه الأمل.”
فيكتور فرانكل

في كتابه (On the Sufferings of the World) يؤكد شوبنهاور أن الألم والمعاناة هما الأساس الثابت الذي يقوم عليه هذا العالم وهما القدر المحتوم لهذه الذات الإنسانية. والحقيقة أن الآلام كانت دوما جزءا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية وكذا من وجود الإنسان وبقائه، ولما اكتشف هذا الإنسان أن الألم والمعاناة حتمية إنسانية سترافقه منذ ولادته حتى مصيره الأخير بدأ بطرح الأسئلة حول وجوده وماهية مفاهيم مجردة كالمعاناة والإحباط والموت.. فوجد بذلك عزاءاته في رحلته من أجل البحث عن المعنى متجاوزا بذلك العالم المادي المحسوس ومعززا لتجربته الوجدانية السامية.

لقد كان يرجو في رحلته هذه أن يتخلص من حبال الحيرة والقلق الفكري والوجداني التي كانت تلف عنقه، فكانت أولى خطواته في هذه الرحلة الشاقة أن لجأ إلى “الأسطورة” باعتبارها تعبيرا وصوتا لاختلاجات النفس ونزعاتها الداخلية، ثم بعد تطور التجربة الدينية أضحى الدين يشكل مؤسسة من مؤسسات اليقين والمعنى، فوجد الإنسان في الإيمان والرضا والاستعداد للمصير الأخروي عزاء رمزيا يسمو بروحه ويخلصها من قلق جدوى المصير. وإلى جانب الدين قد حاولت الفلسفة بدورها أن تحجز لها مكانا في هذه الرحلة وراء المعنى من خلال نظرها المتفحص في وجود الإنسان ومشكلاته وهمومه وتساؤلاته، وكذا ترحيبها بالألم والمصاعب ودعوتها المستمرة لتقبل المعاناة. فها هو ذا نيتشه يعلن في فلسفته عن أن اختيار الألم والمعاناة وتقبلهما هو تحقيق لجزء كبير من النضج وتحقيق الذات، وفي هذا الصدد يقول «إذا قررت تقليل درجة الألم البشري فأنت أيضًا تقلل قدرة البشر على الشعور بالمتعة والسعادة».

لقد شكل المعنى وسط هذا الصخب المقلق وهذه الرتابة التي تصيب بالغثيان نقطة الخلاص التي يتحرك بموجبها الناس نحو مسؤولياتهم وآمالهم. إن المعنى هو ما يدفعني لكي أضبط المنبه في الصباح الباكر فأستيقظ وأتدافع في المواصلات لكي لا أفوت محاضرتي الصباحية أو تدريبي الاستشفائي، وحده المعنى كان قادرا على مساعدتي في مقاومة العدم والنسيان.. في مقاومة الضياع والتلاشي.

إن أكثر الأشياء التي كانت تبعث الرعب بداخلي أن يغرق المرء في فعل وتكرار أشياء لا معنى لها أو لا يبحث على الأقل عن المعنى في القيام بها. ألم يكن عقاب سيزيف الأبدي بعدما تمرد على الآلهة أن يعاود دحرجة صخرة على سطح جبل مرارا وتكرارا، بلا نهاية، وبلا جدوى؟ لقد جسدت أسطورة سيزيف والصخرة الشقاء والعذاب الذي يحل بالإنسان حين تكراره لأفعال وأعمال ينعدم فيها المعنى والجدوى. إلا أن المتأمل في خيوط هذه الأسطورة لا بد أن يتبادر إلى ذهنه كيف أن سيزيف لم يفكر في وضع حد لهذا الشقاء المأساوي الذي يعيشه؟ لقد حاول ألبير كامو الإجابة عن هذا التساؤل الوجودي فوجد أن سيزيف قد وجد المعنى في تحديه وكفاحه المستمر وإلا كان بإمكانه أن ينهي حياته ببساطة ويموت منهزما، فيصل بذلك كامو إلى حقيقة مفادها أن ”الانتحار ليس حلا مناسبا أبدا، لأن قتل نفسك ينفي المشكلة فقط بدلا من حلها”₁₁.

لقد لقنتني أسطورة سيزيف دروسا جمة وأرشدتني إلى الطريق الصحيح من أجل الوصول إلى المعنى، فليس بالضرورة أن يكون كل يوم مختلفا في حياتك، وأن تعمل كل يوم انتظارا للمعنى، فالمعنى ليس غاية في حد ذاته، المعنى موجود في الطريق، في الكفاح، في النضال.. في مواجهة المصير لكننا لا نراه لأننا لا نبحث عنه أصلا في هذه المرحلة من حياتنا، إن مأساة الإنسان السرمدية أنه أقصى المعنى من الألم والتحدي والمعاناة والعبثية التي تحيط بهذا الإنسان من كل جانب.

ربما يتساءل المرء كيف يمكن للإنسان أن تصبح للحياة أو للأشياء معنى بعدما تلم به المتاعب والآلام فتعصر روحه وتنغص عيشته؟ وهو سؤال يبدو مشروعا ومنطقيا للوهلة الأولى، وقد طرحته على نفسي آلاف المرات قبل التوصل إلى إجابة أهرب إليها من القلق والحيرة التي كانت تصاحب هذا التساؤل كلما تبادر إلى ذهني، وفي محاولاتي الأولى للإجابة حاولت استحضار الاحتمالات الممكنة فوصلت إلى نتيجة مفادها؛ إما أن يستسلم هذا الإنسان لهذا الألم فيتوقف عن البحث عن المعنى وبذلك يكون قد قرر وضع حد لحياته، أو أن يكمل السعي وراء المعنى بروح منهكة وبأرجل مقيدة فتطول رحلته أو قد لا تنتهي إلا بموته، وفي كلا الخيارين هي معركة خاسرة من البداية. فلم يكن لهذه الاحتمالات إلا أن عمقت هذه الإشكالية وجعلتها أكثر تعقيدا. ولما كنت شخصا محبا للتحدي لا يرضى بأنصاف الأجوبة فقد واصلت البحث عن إجابتي المفقودة، فحدث أن وجدت عزائي في كتاب (الإنسان يبحث عن المعنى) للدكتور والطبيب النفساني فيكتور فرانكل، هذا الأخير الذي لاقى الويلات والشقاء في المعتقلات النازية وأوصلته نتائج بحث إلى تأسيس مؤسسة [العلاج النفسي بالتسامي أو بالمعنى] logotherapy. يقول فرانكل في كتابه هذا:
(إن المعاناة تتوقف عن كونها معاناة، عندما يصبح لها معنى. ذلك أن الإنسان لا يرفض المعاناة ولا يرغب في حياة فارهة خالية من أية آلام، بل إنه على استعداد لتحمل أي معاناة بشرط أن يجد لمعاناته معنى وغرضًا.)₁₂

ولعل ما أثارني حقا في الكتاب وجعلني أتبنى أفكاره دون تفكير هو أن الكاتب انطلق من تجربته المأساوية والسوداوية والتي استطاع تجاوزها دون أن تبتلع إنسانيته، وذلك من خلال اهتمامه وانشغاله بمعنى يستحق الحياة من أجله ولو في عز الألم والمعاناة. ومن ذلك قد وصل لحقيقة مفادها أن تقبل الآلام واستخراج الدروس والعبر منها دون إرهاق للنفس بالانشغال في التفكير بها هو ما يجعل هذه الحياة تستحق العيش وهو ما يخلق لها أسبابا وعوامل تجعل منها جديرة بالبقاء، وكأنه في نتائجه تلك يوافق نيتشه في قوله “إن من يجد سببا يحيا به، فإن بمقدوره، غالبا، أن يتحمل في سبيله كل الصعاب بأي وسيلة من الوسائل”.

أدرك جيدا أن اللامعنى يحيط بنا من كل الجوانب في هذا العصر الخبيث، لقد كنت أرى اللامعنى في المحتوى التافه الذي يصادفني كل صباح على شاشة هاتفي فيسرق ساعات عمري التي لا يمكنني تعويضها، يتمثل لي اللا معنى أيضا في حواري مع إنسان فاقد للقيم، عابد للمادة وتائه بين أوهامه.. لا يعرف أنه اليوم أصبح مهددا بوجوده، بقيمه، بحضارته، بكل شيء من حياته. وعلى عكس المعنى فإننا لا نجد صعوبة بالغة في البحث عن اللامعنى، لقد أصبح هذا الأخير في هذه الآونة محاصرا لنا في كل مكان، لقد تجسد جليا في الفراغ الوجودي الذي أصبح يعيشه الفرد، في تشييء الإنسان وسلعنته، في الجري بدون كلل وراء المادة وفي الجشع المقيت والتجبر العدواني الذي أتى على قيم الجمال والحب والخير… كم هو مرعب الأمر بداخلي حينما أستوعب أن اللامعنى يجردنا من إنسانيتنا ويجعل منا أشخاصا بلا ملامح وتوجهات وأفكار، أشخاصا نعيش فقط من أجل غرائزنا الحيوانية!

اليوم وبعدما أصبح اللامعنى والتشظي والحيرة عنوان المرحلة الحالية وسمة العصر وهويته الثابتة، أعرف أن الرحلة من أجل القبض على المعنى لن تكون بتلك السهولة، إلا أننا لا بد أن ننال شرف المحاولة، ولن يتأتى ذلك بالسؤال عن المعنى وانتظاره بل بطلبه ورؤيته في الأشياء من حولنا حتى في تلك التي تبدو لنا أنها لا تستحق! فلن يكون لذلك الصباح الجميل بسمائه الصافية ونسيمه العليل أي معنى إن لم تتدخل ذات إنسانية واعية بإنسيانتها لتعبر عن إعجابها وانطباعاتها أو حتى دهشتها لذلك التناسق الرهيب.

وسط كل هذه المشاهد البشعة لتدمير الإنسانية وقتل القيم.. وسط كل هذه التفاهات اليومية والفوضى المادية.. وسط كل هذا التفكك في العلاقات الإنسانية وهذا الاجتياح العولماتي… وسط كل هذه الوقاحة والخبث… ألا نستحق هدنة مع الحياة؟ ألا يكفينا هذا التضييق على المعنى ومحاولة قتله؟! وإذا سلمنا قبلا باستحالة القضاء على اللامعنى بعد استفحاله في عالمنا المعاصر، ألا يمكننا الوصول إلى المعنى عن طريق اللامعنى؟

1xbet casino siteleri bahis siteleri