ما معنى أن يكون المرء خائفا؟
“في غمرة الخوف؛ يفقد البشر القدرة على التصرّف.”
عبد الرحمن منيف
قرأت ذات مرة مقولة للكاتب والأديب فرانس كافكا: “لكن ما الذي يمكنني أنْ أفعلهُ لو ظلّ ذلك الخوف ينبِض في جسدي بدلا مِن القلب”. تأملت العبارة جيدا وقد عادت بذاكرتي لمواقف كثيرة استعصى فيها علي أن أفك خيوط سيكولوجية الخوف وفلسفته… في مقطع عابر من حياتي كان صوت الرعد، ظلام الغرفة، ركوب مصعد المستشفى أوأشياء أخرى من هذا القبيل هي ما تخيف الطفلة بداخلي. أما الآن وقد ازداد الأمر تعقيدا فقد أصبحت شخصا يخيفه انتظار الأحداث أكثر من وقوعها، شخصا يرعبه السؤال والزمن والتكرار، لا أعلم حقا كيف اتخذ هذا السيل من المخاوف موضعا بداخلي.. مخاوف من أسئلة منتصف الليل، من وحدة آخر العمر، من انفلات المعنى، ومن عدم القدرة على الحلم والكتابة.
ولما كانت هذه الذات الإنسانية كتلة من مشاعر السعادة والحزن، الحب والكراهية، الاطمئنان والخوف والقلق.. تسابق الفلاسفة والمفكرون لتحليل هذه المفاهيم المجردة التي كانت ترسم ماهية الإنسان وتشكلاته المسلكية وأسلوبه في التعامل مع الآخر والمواقف الحياتية، إلا أنه ورغم كل ذلك الكم الهائل من التصورات والتفسيرات والنظريات النفسية والفلسفية فلا زالت محاولات فهم المشاعر والعواطف الإنسانية من أصعب المهام وأكثرها تعقيدا، وما بذله المفكرون والفلاسفة وعلماء النفس سيظل جهدا متواضعا فقط لتقريب المعنى وتبسيط الاستيعاب والفهم.
يعرف الخوف على أنه عاطفة سلبية تنشأ كرد فعل عند استيعاب خطر أو تهديد جسدي أو معنوي، وقد ظهر هذا الخوف بقدوم الإنسان إلى العالم، فكان يخاف الإنسان البدائي من الحيوانات المتوحشة ومن عوامل الطبيعة القاسية كالرعد والبرق والأمطار الغزيرة.. ثم بتطور حياة الإنسان تشكلت لديه مخاوف من نوع آخر لكن الشعور بالخوف في حد ذاته لم يتغير، لذلك تبارى علماء النفس والفلاسفة على فهم هذا الشعور الإنساني الذي لازم النوع البشري منذ ظهوره مع كل ما يصاحبه من اضطرابات نفسية كالقلق والارتباك وعدم الارتياح.
وقد كان رائد مدرسة التحليل النفسي (سيغموند فرويد) من الأوائل الذين انشغلوا بوضع القلق تحت مجهر علم النفس باعتباره شكلا من أشكال الخوف، حيث ذهب في تعريف القلق على (أنه شعور اضطرابي، ينشأ تلقائيًا كلما طغى على النفس وابل من المثيرات الشديدة التي لا يمكن السيطرة عليها أو التخلص منها، كما تطرّق في تفسيره إلى التمييز بين ثلاثة أنواع من القلق، اعتبر أحدها سويًا وهو ما سماه القلق الموضوعي الذي ينتج عن إدراك خطر موضوعي كمواجهة حيوان مفترس مثلا، بينما رأى في الاثنين الآخرين صورةً غير صحية من القلق وأولهما القلق العصابي الناتج عن تهديد الهو والدوافع الشهوانية للأنا التي بدورها تخاف العقاب الذي سينتج وراء هذا الانصياع.
أما النوع الثاني من هذا القلق غير الصحي فأطلق عليه اسم القلق الأخلاقي وهو نتاج الصراع القائم بين الهو والقيم الأخلاقية التي تمثلها الأنا الأعلى. ثم بعد مرور عقود على هذا النظرية عاد فرويد لمراجعة تفسيراته عن القلق، فذهب إلى أن تفسيره بالدوافع الليبيدية كان خاطئًا، وأن القلق سببه كبت وقمع الدوافع البغيضة، “كما أنه ينذر بوجود خطر وشيك، أو تهديد أو صراع داخلي، هذا بالإضافة إلى أنه يعمل بمنزلة نداء أو إشارة لتحذير الأنا من أن هناك شيئًا على وشك الحدوث.”₇
ولقد انتبهت في العديد من قراءاتي وبحوثي للجهد الذي يتم تخصيصه لتسليط الضوء على شعور الخوف والقلق عند الإنسان في جل الكتابات الأدبية والشعرية، أو حتى من أجل تجسيده في أشهر اللوحات الفنية، فمن الأدباء والشعراء والفنانين ما رأى فيه أنه منبع العبودية والعجز والجبن بل وغذاء الشقاء والتعاسة، ومنهم من رآه معادلا للشهامة والشجاعة والمروءة، وهناك من الفلاسفة من اختلفوا في غاية تحرير الذات الإنسانية من هذا الشعور المعقد، فذهب البعض كأبيقور أن تحرير الناس من الخوف هو غاية المعرفة، أما هيغل فرأى أن ذلك غاية التاريخ، في حين كان ذلك غاية الدولة الحديثة عند اسبينوزا وأتباعه.
إن وصف شعور كالخوف أو محاولة تعريفه قد يبدو شيئا بتلك السهولة، لكنه في الحقيقة أمر عجز عنه كبار علماء النفس والفلاسفة، وغير بعيد عن ذلك فإنني أنا نفسي لم أكن قادرة دوما أن أفهم علاقتي بالخوف، لقد كنت شخصا مرتبكا وخاويا أمام مخاوفي، مخاوفي التي لم تكن لتختار الزمان ولا المكان لتحل بي، قد يرعبني سؤال عار كما ولدته أمه داخل الباص أو وحيدة في غرفتي.. لا يهم أين ومتى؟ وقد يذعرني أن أفطن لانفلات الزمن من يدي فيفوت الأوان، وقد أخاف من أن يقتلني تكرار المواقف والمشاهد في حياتي القصيرة جدا. ولا أخفي عنكم أن كل شيء كان ينهار بداخلي حين خوفي، حتى الزمن كان يتلاشى.. وكل مناي في تلك اللحظة أن يتوقف العالم من حولي وأن أقبض على الخوف في مكان ما فأواجهه قبل موته الأخير!
إننا حين نتحدث عن الخوف يخطر ببال الكثيرين أننا نشير فقط إلى الخوف الذي يحل بنا حين المشي في الظلام مثلا أو إلى الفوبيا التي تصيبنا من المرتفعات، أو المصاعد أو الأماكن المغلقة وغيرها، وفي الحقيقة أن هذا النوع من الخوف طبيعي جدا في فطرتنا الإنسانية بل وقد يكون مفيدا من أجل اتخاذ رد الفعل المناسب للنجاة بأنفسنا، فلولا الخوف وردة الفعل الناتجة عنه هل كنا سننجو بذواتنا مثلا عند اقتراب حيوان متوحش منا ينوي افتراسنا أو سيارة مندفعة تنوي دهسنا؟
إن الخوف كشعور بحد ذاته له تركيبته وتفاعلاته الفيزيولوجية الخاصة به التي لا تتغير في الغالب، إلا أن الذي يجعل الخوف أو القلق ينقسم إلى خوف طبيعي وآخر غير طبيعي أو غير صحي كما وصفه فرويد هو نوعية المخاوف التي تحيط بالإنسان، فأعراض الخوف من تسارع في النبض وتعرق وضيق في التنفس وقشعريرة وتوتر في العضلات والتي يمكنها أن تصيب الإنسان عند صعوده شيئا مرتفعا أو مكوثه في مكان مغلق هي نفسها التي تصيب شخصا يود إلقاء كلمة أو خطاب أمام عدد غفير من الجمهور، لكن الاختلاف يكمن في أن الخوف الأول طبيعي ويمكن تجاوزه والتعايش معه بينما يبقى الخوف الثاني خوفا غير صحي قد يعيق العديد من الجوانب في حياة الإنسان.
لقد كانت تأتيني في العديد من الأحيان الكثير من الأسئلة حول كيفية التغلب على الرهاب والخوف الذي يصيب الإنسان عند التحدث مع الجمهور، وقد كان يصل بالأمر عند الكثير من زملائي إلى الاكتئاب والتقوقع والعزلة حين تلعثمهم في الكلام وتعرقهم الشديد وارتجافهم الواضح خلال تقديم عروضهم أو حينما يتم طلبهم لإلقاء كلمة أو رأي حول موضوع معين. إنني أستطيع القول أن تغلبي على الخوف من التحدث أمام الجمهور هو ما ساعدني قليلا على سبر أغوار هذا الشعور الإنساني الذي يمقته الكثيرون، وفهم العديد من الأمور حوله.
إن أول شيء أفعله عند نصيحة من يودون التغلب على النوع من الخوف أن أذكرهم أولا بأن الخوف شعور قابع في كل إنسان فينا وأن من يعتقد أن التحدث أمام الجمهور بطلاقة وبدون ارتباك هو هبة ربانية أو فطرة إنسانية فهو مخطئ تماما، بالعكس، فإنه من الطبيعي جدا أن يعترينا الخوف عند الوقوف في المنصة ذلك أن الإنسان بطبيعته يخاف من المجهول، فهو يجهل ردة فعل الجمهور إزاء كلامه وهذا جزء من تجربة الذات الإنسانية، فكاذب من يدعي أن نبضات قلبه لم تتسارع أو أنه لم يشعر بارتجاف أطرافه أو قشعريرة تسري في جسده عند التحدث لأول مرة أمام عدد كبير من الناس.
إن تجربتي المتواضعة في إلقاء الخطب وتقديم العروض والحفلات والندوات جعلتني أدرك السر في التغلب على هذا النوع من الخوف، إن السر يمكن في عملية (التعرُّض) بمعنى أن نضع أنفسنا أمام ما يرهبنا لمرات متوالية وبشكل مستمر حتى تتلاشى رهبتنا تماما أو بمستوى أقل من الأول، وحتى أنني سمعت ذات مرة شيئا يؤكد ذلك في علم الأعصاب بحيث يوضح أننا عندما نقوم بشيء ما لأول مرة، ينشَط دماغنا بشكل كبير ليستوعب ما هو جديد، لكن مع الوقت، ومع ممارستنا للسلوك نفسه، ينخفض نشاط الدماغ ويعتاد على الأمر.₈
إن المنعطفات والمحن الإنسانية الكبرى دائما ما تخلق مجالا لإعادة طرح الأسئلة والموضوعات الكبرى التي تشغل الفكر الإنساني، ولعل تجربة كوفيد-19 كانت كفيلة بأن تجسد الخوف الإنساني في أعلى مراتبه حساسية، كان هذه المرة خوفا يختلف عن خوف المجاعات أو خوف الكوارث الطبيعية.. لقد كان الخوف يمشي بين الشوارع الخاوية والمدارس ودور العبادة المهجورة، كان قابعا في الصور والفيديوهات والأخبار التي كانت تنذرنا بوحشية هذا الفيروس اللامرئي. ولعل هذه التجربة التاريخية كانت قادرة على إماطة اللثام عن العجز الفطري للكائن البشري الضعيف، فاليوم نحن في مساءلة جديدة للعالم وللطبيعة وحتى للخوف في حد ذاته، لأن مخاوفنا تطورت بشكل رهيب، فالإنسانية اليوم بصدد مواجهة فوبيا نوعية تختلف تماما عن ما تحدثنا عليه قبلا، إنها فوبيا العقل البشري والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتوحشة، إنها فوبيا الأسئلة المعلقة التي تساءل وجودنا البشري وفناءنا الحتمي.
لقد تعددت مخاوف هذا الكائن البشري الضعيف ولا سبيل له في التحرر من هذه المخاوف والهواجس التي تلف عنقه إلا بالاعتراف بضعفه كمرحلة أولية، وأن الضعف لا ينهزم إلا بالقوة، وأن هذه القوة لا تكمن إلا في المواجهة.. مواجهة الذات ومواجهة كل ما يمكنه استنزافه، وليس بالضرورة أن تكون هذه المواجهة بقوة العنف، بل الأصح أن تواجه هذه المخاوف بقوة التقبل والاعتياد، بقوة الحب والسلام والامتنان وكل المشاعر الإيجابية بداخلنا.