أطفال الشارع ووهم الإنسانية

435

ملايين الأطفال يعانون في صمت والذين يسكنون شوارع المدن، منهم يمتهنون التسول والسرقة والآخر يُستغل بأبشع الطرق ويعاني من الجوع. تقدر الأمم المتحدة عدد أطفال الشوارع في العالم ب 150 مليون طفل، فيما يقدر عدد الأطفال النازحين من المناطق التي تعرف نزاعات ب 30 مليون طفل، يتعرضون للاستعباد والاستغلال وسوء المعاملة، وتقدر بأن 11.000 طفل لقوا حتفهم أو شوهوا خلال الحرب في اليمن، وقتل وفق وزارة الصحة في غزة ما لا يقل عن 4400 طفل من بين 11.000 قتيل والكثير الكثير من الموت والتجويع في صفوف الأطفال في كل مناطق التي تعرف نزاعات في العالم هذا بالنسبة لمنظور كوني محض، كذلك نجد في المغرب تفاقم ظاهرة أطفال الشارع في معظم المدن المغربية خاصة الكبرى.

إن أطفال الشارع هم أيضا أطفال حروب أيضا، نجد زيجموند باومان في كتابه “الحب السائل” في جزء منه معنون ب “عن الكرامة الإنسانية”، يستحضر فيلم ل أندريه فايدا وهو فيلم “كورتشك”(Kursk)2018، والذي يعد من أهم الأفلام التي تناولت مواضيع إنسانية لتناوله شخصية طبيب الأطفال البولندي يانوش كورتشك، مستحضرا مقولته عام 1933م خلال الحرب العالمية الثانية في بولندا (كان كورتشك طبيب أطفال متطوع خلال الحرب على بولندا، وقام بإنشاء دار لرعاية الأطفال):

“لا صرخة من العذاب أشد من صرخة إنسان واحد
ولا عذاب أشد مما يمكن أن يعانيه إنسان واحد
ولا معاناة الكوكب بأسره أشد من عذاب روح واحدة”

يستحضر باومان بعدها لقاء تلفزيونيا كان مع مادلين أولبرايت على سي بي أس بعد خمسين سنة من الحرب، والتي كانت تتقلد منصب سفيرة أمريكا للأمم المتحدة، في حديث عن نصف مليون طفل لقوا حتفهم جراء الحصار العسكري الأمريكي المتواصل على العراق، والتي لم تنكر الحدث وواصلت قائلة: “كان هذا خيارا صعبا اتخاذه” مبررة ذلك بقولها: “نعتقد أن الثمن كان منسبا”.
يوضح باومان بعدها بأن هذا المنطق ليس منطق مادلين أولبرايت فقط، وانما هو منطق كل مستشرفي المستقبل والمتحدثين الرسميين باسم الجهات الرسمية، والجنرالات الذين يفعلون ما يوصي به المتحدثون الرسميون، الذين يتبعون عبارة “لا يمكننا أن نطبخ الأومليت أو عجة البيض من دون كسر البيض”، فقد تحولت هذه المقولة عبر السنين إلى شعار حقيقي للزمن الحديث الغريب الذي نعيش فيه، يقول مسترسلا في فقرة أخرى:
“إن إنكار الكرامة الإنسانيةّ، يدمر مصداقية أي سبب يتطلب تأكيد هذا الانكار لنفسه. وهكذا فإن معاناة طفل واحد تدمر تلك المصداقية تدميرا كاملا وجذريا مثلما تدمرها معاناة الملايين. فما يقال عن الأومليت يصبح كذبة بشعة عندما يقال عن السعادة الإنسانية والخير الإنساني.”

إن ما جعل كورتشك يحب الأطفال بقوة أكبر من قدرتنا نحن على ذلك في نظر باومان هو أن كورتشك لم يحب الأطفال بالذات وإنما أحب إنسانيتهم، إنسانية مليئة بالفطرة، ما وصفه بـ: “الإنسانية في أفضل أحوالها إنسانية بلا اعوجاج، ولا تشذيب ولا تقليم ولا تشويه، إنسانية كاملة في عدم اكتمالها وميلادها الطفولي”، معتبرا بأن العالم يعمل على قص تلك الإنسانية من الأطفال في مراحل نموهم عوض تقويتها والحفاظ عليها. لهذا، لا يمكن الإمساك بها ولا الحفاظ على أصالتها إلا في مراحل معينة وقصيرة من حياة الأطفال.

إن السياق الذي يذكر فيه باومان، كورتشك هو سياق في إطار مفهوم “السيولة”، ومفهوم السيولة عند باومان لا يمكن فهمه إلا بإقرانه بالحداثة، فهو يميز بين حداثة صلبة وهي الحداثة في شقها الكلاسيكي، والحداثة السائلة كتعبير فيزيائي يميزه عن مفهوم ما بعد الحداثة، إن الحداثة السائلة هي حداثة تظهر في العولمة أكثر من أي شيء، سيولة الأفراد من خلال التنقل من مكان لآخر وسيولة الهويات والقيم الإنسانية.

في السياق المغربي نجد فيلم السينمائي “علي زاوا”، والذي تطرق إلى هذه الظاهرة في سياقها المغربي عن كثب، حيث يصور الفيلم ويحكي قصة تجري أحداثها بالكامل داخل أحد أحياء الصفيح في الدار البيضاء، ويبين الفيلم طبيعة العلاقات بين أطفال الشارع ويقرب المشاهد أكثر من معاناة هذه الفئة، وهذا خلال سرده قصة أطفال يحاولون تحقيق حلم صديقهم بالإبحار إلى جزيرة نسجها في خياله الطفولي، والذي مات بعد سقوطه في أحد المنازل المهمشة التي كانوا يتخذونها كمأوى لهم، يظهر أيضا الوصم الذي تعاني منه هذه الفئة بعد دخولها الشارع العام.

وهكذا نجد نيتشه أيضا في تحدثه عن الأخلاق، قسم الأخلاق الى قسمين، “أخلاق السادة” التي ترتبط بالسلطة و”أخلاق العبيد” التي ترتبط بمجموعة من القيم وبين الأخيرين شد وجذب، ويعتبر أن الأخلاق قوية ومتجذرة وصعبة الترسيخ أو الزوال، لهذا يدعو نيتشه الإنسان إلى أن يتأقلم مع حياته مهما كانت صعبة حتى يجعلها تستحق العيش، نيتشه يعترف بوجود القيم، ولكنه يرى بأن خلف هذه القيم مصالح تخدم الجهة التي تتميز بها.
لطالما راودني سؤال، ما الفرق بين أطفال الشوارع وأطفال الحروب؟ وكلما دخلت في نقاش مع أصدقائي لاحظت هذه السيولة في القيم والمبادئ.

لا أعتقد بأن هناك فرقا بينهما، فالغريق، غريق، والمتعاطف مع أطفال الحروب يجب ان يتذكر أيضا أطفال الشوارع والعكس، فعدد أطفال الشوارع بدون أي شك أكثر من عدد أطفال الحروب، ولكن المعضلة ليست في الكم كما يقول كورتشك، المشكلة في المنظور الذي ننظر به لهؤلاء الأطفال، الذي جعلنا نتساهل مع موت طفل أو خمسة أطفال مقابل موت 200 طفل، أليست هذه أيضا لا إنسانية؟ وهل يمكن التمتع بالإنسانية وهل هناك إنسانية واحدة؟ باومان يقول بأنه وفي إطار مفهوم الحب السائل اليوم، قد تكون الإنسانية في إطار الحب أكثر نجاعة من الإنسانية في إطار السياق الذي يعرفه العالم اليوم والذي يحصر الأشياء(والبشر) في الكم وبطريقة سائلة قانونها هو قانون مد وجزر، إنسانية هلامية غير مستقرة.

هناك أطفال في معظم المدن الكبرى والصغرى منها، وفي معظم دول العالم وعالمنا الثالث بالخصوص لما يعرفه من نمو ديموغرافي كبير، فهناك أطفال تقص إنسانيتهم قبل أن تنبت. إننا وفي عالم تسوده “الفوضى الخلاقة”، يشاع فيه ما يريد الحكام شيوعه ويطمر ما يراد طمره، ما من شيء يجب أن نحاول فعله غير أن نحاول ما أمكن أن نكون يانوش كورتشك هذا القرن، أن نحاول ما أمكن ألا تقص كل أجنحة الإنسانية فينا، وأن تكون قيمنا نابعة من مصدر واحد هو الحب.