التسول بين مطرقة الحرمان وسندان الامتهان

تعتبر ظاهرة التسول من الظواهر الاجتماعية والفلسفية المعقدة، التي عرفت انتشارا واسعا عقب ثورات الربيع العربي أواخر سنة 2010، فلا يخلو أي مجتمع منها، وهي من الظواهر التي أضحت تجذب وتلفت الانتباه في الشارع العام، فبمجرد أن تتجاوز عتبة باب منزلك بخطوات قليلة تلاحظ متسولين في كل مكان، يضعون طاسات أمامهم لجمع دراهم معدودات، ويختلقون قصصا تدل على شدة معاناتهم ومرضهم، ويعرضون أوراق العلاج والدواء الباهض الثمن، أو أوراق كراء السكن وما إلى غير ذلك، ويطلقون العنان لدموعهم الجاهزة للسيلان، والإسراف في الدعاء الذي غالبا ما يكون الضحية في حاجة إليه في ذلك الوقت، وسرعان ما تجد الضحية نفسها جزء من ذلك المشهد وتتعاطف معهم بالتنازل عن بعض المال لتقديم يد المساعدة لهم، حيث يعصرون القلوب ألما والعيون بكاء، أمهات عازبات يحملن أطفالا لا يكفون عن الصراخ والعويل، أو يلعبون بالرمل والحجارة وهم حفاة الأقدام، تضربهم أمهاتهم عند البكاء وإن كان بكاؤهم بسبب الجوع حتى.

يتظاهرون بالعجز والذل والضعف، يتكلمن بصوت خافت، و يلقين نظرات بريئة تشبه براءة أفلام الكارتون التي تصور الجميع أبرياء، إضافة إلى الثياب المرقعة والمتسخة بالغبار، التي تعتبر من الأشياء الضرورية والمهمة لاستدرار عطف الناس وحثهم على العطاء، ويعتبر يوم الجمعة من أيام الأسبوع المفضلة لديهم للتسول، أما شهر رمضان فكل أيامه مربحة بالنسبة لهم، خاصة العشر الأواخر منه، إذ يتسابق الناس حتى اللذين لا يملكون شيئا ليغفر الله لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، ففي هذا الوقت بالتحديد تجد الناس لا تفر من المتسولين بل تبحث عنهم، إذ تجدهم متراصين كأسنان المشط أمام المساجد والمستشفيات وعند إشارات المرور وفي الأرصفة والحافلة، يجوبون الشوارع بدءا بالطرق التجارية الشعبية إلى الدروب المنسية، ومن المألوف أن يعترض سبيلك متسولين في كل زمان ومكان، فلا تلتفت يمينا ولا يسارا إلا وتسمع توسلات بعضهم، وأنات غيرهم.

فظاهرة التسول أصبحت تنخر جسد المجتمع، اجتاحت كل الفئات العمرية من الطفولة إلى الشيخوخة ومن الذكورة إلى الأنوثة، أصبح الكل يمتهن التسول دون كلل ولا ملل، شغلهم الشاغل جني المزيد والمزيد من الأموال، وهذه الفئات تخضع للانكماش أو التوسع حسب عدة عوامل كالمناخ والمناسبات الدينية، فهناك من يمارس التسول بصفة دائمة وهناك من يمارسه بصفة موسمية كل حسب أهوائه ورغباته واحتياجاته، لذلك نجد حتى لغة الأرقام تقف عاجزة عن تحديدها.

فبمجرد حضور السلطات فالكبير في السن العاجز مثقل الخطى يصبح صغيرا خفيف الخطى، والذي يدعي أنه من ذوي الاحتياجات الخاصة يصبح عداء رياضيا، فالكل يختفي سريعا عن الأنظار فجأة في لمح البصر، وينكشف الغطاء وتسقط الأقنعة وتظهر الحقيقة للعيان، تعتبرهم السلطات كائنات تشوه الأماكن العمومية وتقف حجرة عثرة أمام السياحة في البلاد، ويعتبرون أنفسهم ضحايا المجتمع لا حول ولا قوة لهم، وفي ظلمات الليل يدخلون بيوتهم بعد يوم طويل من الكلام والركض والإلحاح، لا هم قنوعون ولا هم مرتاحو البال، ويتكرر المشهد ذاته في نور نهار اليوم الذي بعده وهكذا دواليك، لكنهم اعتادوا على ذلك، لأنهم يعتبرون التسول صفقة مربحة في نهاية المطاف لا مجال للخسارة فيها، رغم الأعباء والمصاريف التي تقع على عاتقهم من كراء الأطفال في بعض الحالات وكراء الأماكن الأكثر رواجا للتسول لأنها ربما تكون من نصيب متسول آخر يحل مكانه، فهي أصولا تجارية لمعظمهم.

وما يزيد الطين بلة والأمر أكثر سوءا وتعقيدا، أن المتسولين في الآونة الأخيرة نقلوا أنشطتهم إلى العالم الأزرق، حيت تم الانتقال من التسول في العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، وأصبح التسول والاحتيال وجهان لعملة واحدة، فهناك أناس محتالون لصفة مشاهير بحسابات وهمية، يختلقون قصصا مأساوية وأغلبها تكون زائفة، يتقنون الفن والإبداع، لصياغة أقوال وعبارات الاستعطاف بكل الوسائل والطرق المتاحة لهم، إما لجمع التبرعات لضحايا حوادث السير، أو الحصول على علاج لمرض خطير، أو لتوفير أساسيات العيش، والمؤسف حقيقة أن التسول في حد ذاته أمر مزعج لكن ما هو أكثر إزعاجا هو استغلال المتسولين للدين كوسيلة لابتزاز الناس وانتزاع ما في أيديهم.

فاليوم نلاحظ مافيا استغلال أطفال وقاصرين في التسول يرتمون في أحضان هذه الآفة السيئة، ويعرضون مستقبلهم للانحراف والضياع، ويبتعدون عن مكانهم الطبيعي الذي يكمن في المدرسة ويمتهنون المهنة دون رقيب ولا حسيب، فبالفعل هي طريقة بشعة لاستغلال الأطفال بما تحمله الكلمة من صفات ومعان. لكن السؤال الذي يتبادر إلى ذهني وأنا أكتب ما يجول بخاطري، وما يخطر ببالي، هل كل هؤلاء المتسولين في أمس الحاجة والعوز؟ وهل فعلا يعانون من الفقر والفاقة؟ وليس لديهم بديل آخر كالعمل، لأنه كما هو معلوم أن العمل عبادة والتسول جنحة مخالفة للقانون وضد مبادئ وقيم المجتمع وفيها مد لليد، واليد العليا خير من اليد السفلى؟ إذ صار الأمر مشبوها ومشكوكا فيه، بين من يتسول حرمانا واضطرارا وبين من يمتهنها مهنة، إنه زمن اختلط فيه الحابل بالنابل ويصعب التمييز فيه بين الصالح والطالح.

ومن هذا المنطلق يمكن القول على أن أسباب التسول عديدة ومتعددة على سبيل المثال لا الحصر نجد: الفقر والهشاشة واليتم، ففي هذه الحالات حتى تلك الدراهم المعدودات لا تسد رمقهم وجوع أطفالهم وشفاء مرضهم وكساء جسدهم، إذ هناك فعلا من يسقط في أنياب الجوع، وفي الضفة الأخرى هناك فئة تلجأ إلى التسول على سبيل الامتهان والاحتراف بالرغم من يسر حالتها المادية والاجتماعية، لأنها تدر عليها دخلا مهما بلا مجهود وبلا تعب وبلا شهادات أكاديمية.

إذ حتى الفلاسفة يرون أن التسول لا كرامة ولا دين له، فحسب علماء السوسيولوجيا الفقر حالة إنسانية أما التسول فهي مهمة احترافية، ففي الحالة الإنسانية العادية الطبيعية لا يتم اللجوء إلى التسول تحت ذريعة الفقر. يقول الخالق عز وجل في كتابه العزيز: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273]. فشريعتنا الإسلامية الغراء لا ترض للمسلم ذل السؤال، ولا حتى إهانة نفسه أمام جمع غفير من الناس، أما من الناحية القانونية لم ينظر المشرع للمتسول على أنه من أصحاب الحاجات ولا يدخل في زمرة الفئات المستفيدة من أنظمة الضمان الاجتماعي، بل اعتبر التسول عملا غير أخلاقي يقوم فيه المرء بادعاء الحاجة مع أنه ليس من أهلها وفرض العقاب من أجل الزجر والردع، على كل من لديه سبل العيش أو بإمكانه الحصول عليها عن طريق العمل أو أي طريقة مشروعة أخرى، لكنه اعتاد ممارسة التسول، وتكون العقوبة أكثر تشديدا في حالة المتسول الذي يلجأ لوسائل التهديد أو التظاهر بالمرض، وحتى تعوده اصطحاب طفل ليس من فروعه، أو التسول بشكل جماعي.

وعليه، ينبغي التصدي لهذه الظاهرة لما لها من انعكاسات وتبعات سلبية على تقدم المجتمع وتطوره، وإعاقة مسيرته التنموية، فبشاعة التسول وأضراره على الفرد والمجتمع يؤدي إلى موت الهمم، وقتل الطفولة وسلب لحقوقها، ويورث انحطاطا في الأخلاق، وينزع البركة في المال، والحياء من الوجه والقلب، أكثر من هذا أن التسول لا تكمن خطورته فقط في أفراد امتهنوه لقلة حيلتهم أو طمعا منهم، بل في شبكات إجرامية تديرها عقول تستهدف توزيع المتسولين في مناطق معينة لتكفل لهم دخلا أو إيرادا معينا، زيادة على أن الأموال تنتقل مناولة من يد إلى يد، ولا تساهم في مالية وخزينة الدولة، ولا تنعش اقتصادها جباية وضريبة.

فالواجب على من لديه فضل المال ألا يستأثر به لوحده لأن مصيره النقصان والزوال، وألا يلقي به في الهواء، ويمنحه لأول سائل يستعطفه ويعترض سبيله، إذ عليه البحث عن أهل الحاجة الذين لا يسألون الناس إلحاحا وإصرارا من أهله وأقاربه و أبناء بلده، فالأقربون أولى بالمعروف، أو التوجه إلى مؤسسات خيرية ذات المصداقية كي يضع ماله في أياد آمنة توصله لمستحقيه عوض منحه لكل من هب ودب دون أن يكون بحاجة إليه، لأنه بذلك يساهم في  التكاثر والزيادة في عدد هذه الفئات، والتشجيع على هذه الآفة وتجنب اندثارها والمساهمة في انتشارها رويدا رويدا، كما قال المهدي المنجرة رحمة الله عليه: ينتشر التسول بوجود من يعطي الصدقة، فالإشكال منا نحن كيف أننا نذم الشيء وفي الوقت ذاته نقبل عليه.

1xbet casino siteleri bahis siteleri