هزة… للعبرة

عشنا هذه الأيام بقلوب حزينة وأعين دامعة وأفئدة مهمومة، ونفسية متعبة، فترة صعبة للغاية، إنها أيام ثقال تسلل فيها الكرب إلى أرواحنا لكن إيماننا هو من يحيينا وينتشلنا من براثن الضياع، زلزال رهيب ضرب مناطق المغرب بأكملها وكذا البلدان المجاورة يوم 08 شتنبر 2023، زلزال بقوة 7 درجات على مقياس ريختر، بلغت فيه عدد الخسائر البشرية حوالي 2946 قتيلا، 5674 جريحا، اعتبره المعهد الوطني للجيوفيزياء الزلزال الأعنف الذي ضرب المغرب منذ تقريبا قرن من الزمن، كان مركزه قرية تدعى أداسيل إقليم الحوز، لذلك سمي بزلزال الحوز، غير أنه شعر به حتى سكان المدن المغربية الأخرى، لا أحد كان يتوقع أو يتنبأ بذلك فكان كل شيء على ما يرام يسير وفقا للمخطط له، لكن بمشيئة الله تعالى وبقدرته انقلبت الأمور رأسا على عقب في دقائق معدودات، وأصبح فيها الغني مثل الفقير، والكبير مثل الصغير، الكل يصرخ ويستنجد تاركون أغراضهم وأموالهم وأمتعتهم لينجوا بأرواحهم من هذه الكارثة المدمرة، وصارت كلمة “زلزال” هي التي تتطاير من كل الأفواه.

في تلك الليلة السوداء بالذات تحول المنزل في دقائق قليلة من موطن أمان إلى موطن خوف وذعر، إذ أصبح الناس تفر منه بعدما كان موطن راحة وطمأنينة وأمان بالنسبة لهم، يبيتون في العراء، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، فلا أحد يستطيع العودة إلى منزله خوفا من انهياره مرة أخرى.

فحين تهتز الأرض تحت أقدامنا، تهمس لقلوبنا بحقيقة مؤلمة على ضعفنا وعجزنا، تزلزل التراب المغربي، وهزت روح كل مواطن ومواطنة، كل هزة وكل ارتجاف هي دمعة من الأرض، وصرخة صامتة تمزق حياتنا اليومية وتواجهنا بخطورة الحياة أمام هذه القوة العظيمة، فحياتنا تبدو هشة وعابرة، إلا أنه رغم الآلام، فالروح الوطنية للشعب المغربي تشع نورا حتى في أحلك الظروف، تروي أنه حتى في الأوقات العصيبة والصعبة حبنا لوطننا لم ولن يتزعزع، فكل لحظة هي كنز ثمين، وكل نفس على قيد الحياة هي هدية لا تقدر بثمن.

خرج الملك نصره الله وأيده للأمام وأعطى لنا الأمل، قام جلالته، بإعطاء تعليماته السامية بشكل مستعجل ليلة يوم 09 شتنبر 2023، إذ تم نشر وسائل بشرية ولوجيستيكية مهمة برية وجوية، ووحدات تدخل متخصصة، وأعلنت الحكومة المغربية فتح حساب خاص لدى الخزينة وبنك المغرب، بهدف تلقي المساهمات التضامنية والتبرعات من المواطنين والهيئات في القطاعين العام والخاص.

وطن خرجت قواته المسلحة وباقي السلطات وفرق الإغاثة لإنقاذ ضحايا تحت الركام، وطاقمه الطبي لمداواة المرضى والجرحى، وصحافة لنقل الأخبار من عين المكان دون تزييف ولا نقصان، ومواطنين ومواطنات للمواساة وتقديم المساعدات، الكل يد في يد، وبالفعل تفاجأ من في الداخل ومن في الخارج بهذا البلد القادر بكل وعي ونضج على أن يتعامل بكل قوة وثبات مع كوارثه ومسراته، يظل صامدا في الشدة والرخاء على حد سواء.

إذ ظهرت مشاعر الوحدة الوطنية والأخوة والانتماء بشكل عفوي، توافد المواطنين والجمعيات ذات رخص الإحسان العمومي إلى المحلات التجارية لاقتناء المواد الغذائية والملابس وكل الأشياء التي سيحتاجها المتضررون من الزلزال والتي تعتبر من الأساسيات والضروريات من جيوبهم ومن مالهم الخاص، كل بحسب استطاعته وما جاد به جيبه يجمعون المساعدات والمساهمات بكل تفان وحماس كأن الأمر قد نسق من قبل بأيام، لإرسالها إلى الدواوير المتضررة في جبال الأطلس الكبير، والأمر على حد سواء في جميع ربوع المملكة من شمالها إلى جنوبها، فمن لم يشتري أي شيء سخر سيارته الخاصة لنقل المساعدات إلى المناطق المنكوبة، تكبدوا عناء الطرق والمسالك الوعرة، وتسلقوا الجبال الشامخة تكاد تصل السحب، وضحوا بحياتهم بغية إيصال المؤونة وتقديم العون لهم، فحتى الجالية المغربية المقيمة بديار المهجر يواسون أبناء وطنهم، إذ كان بإمكانهم أن يعيشوا حياتهم بشكل عادي كأن شيئا لم يقع، لكن حبهم لوطنهم وتشبثهم بأرض أجدادهم لم يسمح لهم ، جعلهم يفعلون ما بوسعهم للمساعدة ومشاركة الحزن والألم، إنها الوطنية التي حركتهم بدون سابق إشعار ولا إنذار، هذا إلى جانب حملات التبرع بالدم، فهناك كثرة الوافدين على مراكز تحاقن الدم في معظم مدن المملكة، حيث سجلت إقبالا غير مسبوق خلال هذه الفترة بعد الزلزال، ومن جهة أخرى حملات طبية وطنية متنقلة ومستشفيات ميدانية، فحجم التضامن استثنائي مثير للفخر والاعتزاز.

وأنا أخط هذه الأسطر تراودني بعض المشاهد العالقة في ذهني والراسخة في مخيلتي، على رأسها الشيخ الكبير في السن الذي يحمل على كاهله عبء أعوامه الستين، يحضر نصف كيس طحين لمركز المساعدات على دراجته الهوائية، وسيدة عجوز تبرعت بخاتمها المصنوع من الذهب الخالص لتساعد به ضحايا الزلزال ودون شك سيكون أغلى ما تملك، وطفلة صغيرة أعطت دميتها الوحيدة لفائدة أحد أطفال المناطق المنكوبة، وسيدة أخرى لم تنس حق الجار حتى بعد الزلزال تسلقت الجبال وركام البيوت التي هدمت لكي توصل طبق كسكس لجيرانيها، فكرم الساكنة وأهل الدواوير والقرى لم أر له مثيل من قبل، فرغم الكارثة المدمرة، إلا أن الابتسامة لا تفارق محياهم والشكر والحمد لا يفارق ألسنتهم، فهم بالفعل قدوة في مدرسة الصبر والرضا والقناعة.

وما نراه اليوم نصب أعيننا يؤكد صواب جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله عندما سئل كم عدد عسكر بلادك وأجاب بأن شعبه بأكمله عسكر، إنني أفتخر لكوني أنتمي لهذا الشعب العظيم والوطن الحبيب الذي ظهرت ألوانه الحقيقية ومعادن أناسه في الشدائد.

ومن جهة أخرى فإنه بالإضافة إلى السخاء وروح التعاون والوحدة التي كانت بين المغاربة كجسد واحد، وكبنيان واحد، هدفهم الوحيد والأوحد هو الوطن، الذي أبانوا عنه في فترة الشدة، يستفاد ويستخلص أيضا أن الزلزال ليس إلا تخويفا أو تذكيرا للعبد بأنه كيان ضعيف وعاجز أمام الله سبحانه وتعالى، فيلجأ إلى الله بالدعاء والتذرع إليه تعالى، فالله عز وجل يرسل الظواهر الطبيعية من زلازل وبراكين وفيضانات، لإفاقة ضمائر الغافلين وعقول التائهين بأن الدنيا فانية، فأين المفر؟ لله عز وجل، فهي رسائل إلهية للذين يلجأون إلى سياسة الأذن الصماء لسماع الحق، ويغمضون أعينهم عن قراءة كتاب الله المنظور والمسطور، ولم يأخذوا العبر من الأمم السابقة التي اشتهرت بالطغيان والعصيان.

وصفوة القول، إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول سوى ما يرضي الله إنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله تعالى أن يقبل موتى هذه الفاجعة من الشهداء، وأن يعجل شفاء الجرحى، ويجمع شمل الأسر التي شردت، ويخلف ما ضاع، و يرزق من فقدوا ذويهم الصبر والسلوان.

1xbet casino siteleri bahis siteleri