عظيمو الأثر

سماء ملونة بظلال رمادية، يتخللها من حين لآخر سحوب غائمة داكنة اللون، بحر قليل الهيجان، تساقطات مطرية خفيفة، رمال مبللة تبتلع من يدوسها، على شاطئ البحر كثل كثيفة من البشر، منهم من يتأمل في إبداعات الله عز وجل وفي مخلوقاته، ومنهم من يكتفي بالتقاط صور تذكارية، ومنهم من يمارس رياضته المفضلة واستنشاق الهواء النقي الذي يبعث في الروح الحيوية والنشاط، سواء بمفرده أو بمعية أشخاص آخرين، في ذات اليوم تم توزيع المهام ثم الأكياس والقفازات البلاستيكية بين كل الأعضاء المشاركين الغيورين على شواطئهم، بعدها اتجه الكل نحو وجهته المخصصة له شمالا أو جنوبا، شرقا أو غربا، سيرا على الأقدام محملين بأكياس ثقيلة، والأيادي الدائبة تجول هنا وهناك تأخذ معها ما يشوب ويعترض طريقها من الأزبال المتكثلة والمشوهة، وتنقب عن النفايات كما ينقب المعدنون عن الذهب في أعماق الصحارى، وعن النفط والغاز تحت سطح الأرض.

شريط سينمائي من الأشياء العجيبة والغريبة، تمشي على الرمال الذهبية، وأنت تأخذ من كل جهة أشياء متوقعة، وأشياء غير متوقعة  خارجة في الحسبان تستنكرها العقول، وتشمئز منها النفوس، وتنفر منها القلوب، وترمي في الكيس البلاستيكي الأزرق، كأنك تسير في سوبر ماركت كل شيء تحتاجه أو ترغب في شرائه ستجده هناك، تستغرب وتتساءل كيف أتت بعض الأشياء إلى البحر، رغم كونها تجربة لساعات معدودات فقط، غير أنها تحمل في طياتها الكثير من المعاني والعبر، تدرك مدى صعوبة وقسوة العمل، وأن تكون جزءا من هذا المشهد وتساهم في التغيير ولو بشكل بسيط، ليس بالأمر السهل والهين.

تحية تقدير واحترام لعمال النظافة رجالا ونساء، يعملون في صمت، بينما هم يقومون بعمل جبار وعظيم الأثر، لو غابوا عن شارع أو حي أو شاطئ مجرد يوم أو يومين، سيلحظ كل ذي عينين كمية القذارة في طريقه، والروائح الكريهة التي تفوح من كل مكان، أحيانا لا نعرف قيمة ما يقوم به الآخرون لأجلنا إلا عندما يتوقفون عن فعله.

منهم شيوخ وكهول أتعبهم الزمن بمشقاته، غير أنه تجده مستيقظا باكرا في أولى نفحات الفجر مع الخامسة أو السادسة صباحا، حيث العصافير تغرد، وقطرات الندى تتساقط من الأغصان، والابتسامة مرسومة على وجهه، وهو عالم حجم المهمات التي في انتظاره، ضمانا لقوت يومه، خادما وطنه بكل افتخار وتفان، مغادرا مستعجلا مهرولا بيته الصغير، متوجها للتو لعمله الدؤوب، يتكبد عناء إزالة المخلفات والشوائب التي تعترض سبيلك دون كلل ولا ملل ويتحمل مشقتها، وقطرات العرق تتصبب على جبينه، ملامح مهملة، وجه شاحب ملون بالعياء والتعب، كي يخول لك بدء يومك سعيدا وأنت تلقي نظرك على مناظر نقية ونظيفة في طريقك للعمل أو ممارسة الرياضة، ويعود في المساء منهكا جسديا ونفسيا من كثرة الوقوف تحت أشعة الشمس المحرقة، والكلمات المؤذية، دافنا أوجاعه في حفرة مظلمة تحت التراب، راغبا في أن يشارك عائلته ما هو جميل في يومه، وممتع في نهاره، أو مكتفيا بتناول ورقة جريدة للقراءة، لعله يجد بين ثنايا الحبر الأسود عالمه الطوباوي، مرددا دائما كلمات الحمد والشكر مخلدا إلى نومه.

مطالبهم بسيطة للغاية، فتلقي حسن المعاملة هو مطلبهم الجماعي دون استثناء، يناظلون من أجله في كل مناسبة وكلما أتيحت لهم الفرصة، للتعبير عن همومهم وأحزانهم ككيانات ومخلوقات بشرية، كائنات مثقلة بأوجاعها ومضغوطة كعلب التونة القادمة من أوروبا نحو إفريقيا في رحلة بحرية، تجدهم دائما في صراع مع الغير من أجل لقمة العيش، ومن أجل البقاء. فرحمة بهم، وأنت تأكل حلوى أو تشرب مشروبا لا بأس أن تقوم وتلقي به في القمامة تاركا مكانك نظيفا نقيا، بدلا من أن تبتلع ما يحلو لك وترمي هنا وهناك، بلا مبالاة ولا أي اعتبار لهؤلاء الجنود، وفي هذا المضمار أكاد أقول إن الكناس مهمته النظافة، يحتقرونه أناس مهمتهم القذارة.

إذ أجد أن الإشكال يبدأ من التربية، فالآباء مسؤولون عن أبنائهم، مسؤولية تقصير وإهمال، وهنا أستحضر مقولة أدهم الشرقاوي حين قال: ورقة تلقيها في سلة المهملات أمام ابنتك أبلغ من خطبة عن النظافة، فالتربية بالقدوة لا بالموعظة، فالأبناء يتعلمون بأعينهم لا بآذانهم، ومن هذا المنطلق تكمن خطورة المفارقة والتناقض بين الأقوال والأفعال، أباء تجدهم يلقنون دروس ومحاضرات الوعظ والإرشاد لأبنائهم على أن النظافة من الإيمان، وتجده يرمي الأزبال أينما حل وارتحل في البيت وفي الشارع أمام أعين وأنظار فلذات أكبادهم، وتذكر دائما وأبدا أن كل شيء ترميه على الأرض سيأتي رجل ينحني له في عمر أبيك.

فلا تنس وأنت تمر على عامل النظافة أن تبتسم في وجهه، وتشكره على عمله وجهده، بكل ود وأدب ولباقة، وعدم التقليل من شأنه، والنظر إليه كمواطن من الدرجة الثانية، ففضله علينا كبير فنحن مدينين له بالكثير من الشكرعلى عمله النبيل، ومجهوداته التي لا تقدر بثمن.

فلا بأس أن تقدم له قنينة ماء باردة يروي بها ظمأه، ويزيل عطشه، لتخفف عنه آلامه ومعاناته وسط عنف الظروف الكاحلة التي تلتف حواليه، وجبر خاطره بكلمة طيبة لما لها من أثر بالغ كنبراس في حياته، نظرا لتعرضه لضغوطات ومضايقات من سب وشتم وعدم التبجيل والتوقير من الأغيار، تعبيرا منهم عن جوعهم الأخلاقي والإنساني.

1xbet casino siteleri bahis siteleri