زمن الصداقات العابرة والأزلية

الصداقة من التيمات التي تحظى باهتمام ليس باليسير في إطار الدراسات الإنسانية والاجتماعية، فضلا عن باقي مجالات الحياة الإنسانية من فلسفة وفنون وأدب، أولع بها الفلاسفة والعلماء وحتى الأدباء، فهي قيمة إنسانية جليلة، وأقوى الروابط الإنسانية، لأن ليس هناك لا رابطة دم ولا ميثاق غليظ، فالصديق تختاره بمحض إرادتك دون إجبار ولا إكراه، ودون شرط ولا قيد.

فالصديق الصادق الصدوق، يشارك ويتقاسم معنا لحظات الفرح والسرور والحزن والغم، لأن الحياة سمفونية طويلة ومعقدة، بها نوطات حزينة وأخرى سعيدة، فالصداقة عالم بسيط ومركب في الوقت ذاته، مبني على المودة والعشرة التي تتجاوز المطبات، وعلى التوافق في الفكر، ووجهات النظر أحيانا، والاختلاف في الطبائع أحيانا أخرى، أما الصاحب فهو الذي يرافقك في نزهة أو موقف أو جلسة عابرة، والصاحب قد يكون ساحبا، يسحبك إلى السعادة إن كان سعيدا، وإلى الشقاوة إن كان شقيا، إذا كان الصاحب مؤمنا زاده تمسكا بإيمانه، وإن كان سالكا لطريق الانحراف انحرف إلى طريقه، وأكاد أجزم أن الشخص الذي ينفي وينكر تأثره بمصاحبة الأشرار فهو مكابر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.”

إذ ليس من الضروري، ومن اللازم أن يكون الصديق نسخة طبق الأصل لك في الاهتمامات والتوجهات، وربما حتى الأفكار، وهنا مربط الفرس، لأنه سيزيد من حصيلتكما ورصيدكما المعرفي، فالاختلاف شرط الصداقة، والاختلافات بين الأصدقاء لا يمكن إلا أن تعزز صداقتهم، فالتشابه لا يعطي القيمة للصداقة، لأننا ما زلنا تلاميذ في مدرسة الحياة، شريطة تقبل الآخر المخالف، لأن الأفكار قابلة دائما للتعديل والتغيير، فقناعاتنا الشخصية ليست أفكارا مقدسة، عكس المبادئ التي تبقى ثابتة، فكما يقال اكتب أفكارك بقلم رصاص، ومبادئك بقلم جاف، ومجمل القول فالصداقة في الأصل هي الاتفاق على الاختلاف.

فالصداقة الحقيقية والأزلية تجهل البعد وطول المسافات والأشبار، لنأخذ على سبيل المثال لا على سبيل الحصر: أصابع اليد، الخنصر، والبنصر، والوسطى، والسبابة قريبة من بعضها البعض، إلا الإبهام بعيد عنها، ومعلوم أن الأصابع لا تستطيع القيام بشيء دون إبهامها البعيد، جرب أن تكتب أو تأكل يستحيل عليك الأمر، فليست العبرة بكثرة الأصحاب حولك، وإنما العبرة بأكثرهم حبا ومنفعة لك، حتى وإن كان بعيدا عنك، فنحن مثلا رغم أن كلا منا شق طريقه الخاص به، إما بسبب الدراسة أو العمل، إلا أننا ما أن نلتقي مجددا إما صدفة أو بميعاد حتى نتبادل نفس الابتسامة والترحيب، بعد طول غياب، ولا يلومونك لماذا لم تدعهم لمناسبة قمت بها؟ ولماذا لم تتصل بهم عبر مكالمة هاتفية؟ ولماذا لم تشارك الصورة التي التقطوها معك؟ فهؤلاء هم الأصدقاء الحقيقيون، تستمتع وأنت بصحبتهم، وتشتاق لرؤيتهم والجلوس بجوارهم لتبادل الأفكار والآراء التي لا تخشى البوح بها، لأنك مدركا تمام الإدراك أن ذلك الأمر لن تؤدي عنه تكلفة أو ضريبة فيما بعد، فهؤلاء الأصدقاء يجب أن نحافظ عليهم لأنهم يستحقون، ونحن أيضا نستحق ذلك.

مقالات مرتبطة

لا يطلق اسم الصديق على كل عابر سبيل في الحياة، لكي لا يقال يوما ما أن الأصدقاء سرعان ما يتغيرون، فاختيار الصديق ليس من السهولة بما كان، ليس كاختيار الطعام أو اللباس أو المسكن، وإنما اختيار لذاتك، قل لي من تصاحب أقل لك من أنت، اختر لنفسك صديقا يليق بك، صديقا تحس من جهته بالمحبة الخالصة، والرفقة الصالحة، وليس إحساسا بنفاق ولا بعلاقة زائلة عابرة، لكن إياك أن تسمح لهؤلاء العابرين أن يأخذوا معهم عند الرحيل إيمانك بقيم الصداقة، لأن الحياة تبعث لنا أناسا بين الفينة والأخرى تجعلنا نؤمن إيمانا يقينا بوجود الصداقة بشكل لا يقبل الشك ولا حتى الظنون، مهما صعب الامتحان وعظم الاختبار.

أصبح كل شيء سهلا، فالحصول على صديق افتراضي لا يتطلب سوى مجرد نقرة على الفايسبوك أو الإنستغرام وأنت في مقعدك، لكن مثل هكذا صداقات لا تدوم في معظمها طويلا، فهي توجد وتنحني في لمح البصر في غالبية الأحيان، لأن أغلبها رهين من أجل الاستمرارية بوضع عدد من اللايكات، والتعاليق اللامتناهية غير المحدودة عن كل صورة ومنشور، لكي تنال رضاه، بيد أنه ينبغي التمييز بين الغرض من الصداقات الافتراضية؛ هل تبادل الأفكار والتجارب اليومية، أم فقط تريد من يملأ صفحتك بكثرة التعاليق الإيجابية وحتى السلبية، والتي ربما قد تكون أحيانا خارجة عن الموضوع، لا تسمن ولا تغني من جوع، وبالتالي الغرض منها وتقبل الرأي الآخر المخالف، ودرجة وعيك، وثقافتك هي الفيصل في نجاحها أو فشلها.

صديق لا يوجد في قاموسه سوى التذمر والسخط وكثرة الشكوى، فضلا عن لوم الآخرين، أصابع الاتهام متجهة دوما إلى الغير، ولا ينظر إلى المرآة لكي يقوم اعوجاجه، قائمته مليئة بالمبررات التي تقف حجر عثرة أمام تطوره وتقدمه، فهذا الصنف بالتحديد  يجب عليك أن تطلقه طلاقا ثلاثا لا رجعة فيه، لأنه دون شك سيلقي بك في ساحة معاركه وأوهامه، فصحبة الأخيار وأصحاب الهمم العالية كحامل المسك تورث الخير، وصحبة الأشرار وأصحاب الهمم الدنيئة كنافخ الكير تورث الشر.

فالصداقة تقاس بعدد المواقف وقوتها وشجاعتها، لا بعدد وطول السنين ولا بالكلمات، لنعلم حينها أن الصداقة تتجلى في قيمة الأصدقاء، لا في عددهم، فلا تتباهى ولا تتفاخر بكونك لديك أصدقاء بعدد شعر رأسك، فربما في الشدائد ستوضح لك الأيام وضوح الشمس بأنك أصلع.

وأختم بمقولة أرسطو حول الصداقة، إذ يقول إنها ثلاثة أنواع: الأولى مبنية على المصلحة والفائدة، والثانية على المتعة والمرح، لكن مصيرهما الزوال، لأن الملذات والمصالح قصيرة الأمد وتجمع الصالحين والطالحين برفاقهم، أما الثالثة فأساسها المحبة وطيبة القلب، وهذه تجمع النبلاء فقط، مبنية على القيم الجميلة والمبادئ الموحدة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri