كان أبي يبلع الحسرة، يحشرها في الحلق ثم يضغطها إلى الأحشاء، يستعين بمرارتها على الرغيف القاسي وتفاصيل المعيش، فإن فرغ أدنا منه الجريدة أو المذياع وجوارح أخي؛ من أخي العين القارئة واللسان المبين، ولأبي السمع المرهف وعسر الهضم، وتجدد الحسرة، حسرة يعيش بها، يراوغها، يأخذها من يديها طفلة صغيرة ثم يعلمها قهر المحال. يقول إذ نتلاجج:
-قد رأيته يخطر في شوارع المدينة، حلما ترجل، بجلباب مخزني وطربوش أبيض، يتوسط ولديه كما انعكاس صورته على القمر، كان أملا حيا.. ممكنا يكسر قيود المحال… ثم يردف ببسمة عريضة:
– يومها خطبت أمك.
مذ ذاك صارت صورة محمد الخامس في إطارها العتيق، ثم المسجد فوق المحيط صدر بيتنا، فسألته من غيرة بعثا لصورنا المدفونة بصندوق عتيق، لكنه رفض بشدة:
– أنتم انتصاري الشخصي، قال أبي، ثم أشار إلى الصورتين: أما هاتين فانعتاق وطن وتمكين.
كان أبي أكبر من النكبة والنكسة، فقد جاءتا بعد ولادته متسارعتين. لم يع الأولى؛ كان يافعا، يرى النصر الساطع مطبوعا على صفحة القمر، متاحا للبسطاء، للضعفاء والحالمين فأدمنه. وعشق صوت عبد الناصر يخلع خشب مذياعنا العتيق، عود عبد الوهاب والليل إذ يتمددان في صوت أم كلثوم، ثم جاءت الثانية فأطارت السكرة وأطاحت بالهمم. وتحدثت الأخبار القادمة من الشرق عن منع تقديس الحج، فصار أبي يغمس يومه في هموم الأمس، ويغص بالحنين.. ثم كبرنا بلا قصص، بلا نصر.
ومرت الجيوش الأمريكية من بين جفوننا إلى العراق، بثا مباشرا، نقلا حيا فصيحا فلم نحتج لسان أخي، ولم نحفل بالقراءات والتحليل، كأنا ألقمنا خنجرا حز حناجرنا فصرخنا مديدا، عاليا، ثم صمتنا. وتطلع أبي إلى الفراغ في مقلنا فجمعنا حوله وحكى لنا عن الأندلس. رأيته يومها حكاء هرما أضاع خيوط السرد، يحملنا من قرطبة إلى دمشق، ومن الحمراء إلى الأقصى فيتعثر في بغداد وتتقطع أنفاسه في سراييفو.. كان حكاء بلا حكاية، بل مثخنا بكل الحكايات، فأشفقت عليه.. وكان الأحفاد يتطلعون إلى شعره الأشيب ومقلتيه الغائرتين تطلعهم إلى برامج الكرتون، يضحكون ويمرحون، يسخرون ولا يغضب.
رثيت لحاله فقفزت على حكيه، ذاك أن لا أحد يحفظ كتاب التاريخ مثلي! زم أبي شفتيه، وسحب أوكسجين الغرفة إل رئتيه ثم زفره أسى، قبل أن يحرر الخيبة الأخيرة:
– تاريخ الكتاب المدرسي المفصص أرقاما كبيرة وصغيرة مدلس، يلتهم ملامح البشر، ولا يعول عليه.
لم أفهم قصده يومها. ثم تولى عنا أسفا. واتخذ منا في البيت ركنا قصيا يأوي إليه، يغمض مقلتيه التعبتين مسندا رأسه المكدود إلى حائط أبيض، وقد يسترق السمع والنظر إلى شاشة التلفاز لماما إذ لم يعد صندوق الدنيا مبهجا، ثم أبي يقينه من تحقق الحج المقدس فطلب من أمي تطريز قبة الصخرة على منديل حريري ضمه إلى جناحه أملا عصيا على النوال.. ويوم أوقعت كرة أصغر الحفدة الصور المبروزة صارت جدران بيتنا عارية تماما. كان الدوي هائلا فوضعت كفي على صدري من غضبة قد ترفع ضغط والدي إلى ما يعجز حبة دواء تلازمه، غير أنه لم يغضب. تحرك من مكانه مرهقا، سحب قدميه إلى حيث الزجاج المنشطر فخلص الصورتين من الشظايا ومن الإطار المتهالك، مسح عليهما بعناية ثم ضمهما إلى صندوقه الأثير.. ورحل.
حمل انتصاراته وغادر متخففا من حسرة جُرِّعتها، بلعتها يومها إلى الرحم فكبرتْ هناك، وانتفختُ بها. أضنتني حملا ومخاضا، ولحظة الولادة بصقتُ روحي على الأرض. تكورت وليدتي على نفسها مسخا، ثم تدحرجت في الشوارع تتوعدها المقاصل. لحقت بها ولما أسترح من آلام المخاض، ولما تلتئم جراحي الغائرات. كانت وليدتي خدّيجة، قد شق الأطباء رمسها ثم تراجعوا مترقبين نفسها الأخير، يهدهد ليلهم الانتظار.. وكنت أنز من كل شبر بجسدي، أتخبط في دمي الممتزج بالعرق وبرائحة التراب إذ يبلله الندى، ولم أكن لأتوقف وقد سبقتني أنفاسي سحلا عبر خرائط الجغرافيا تسخر منها ملخصات التاريخ، ملخصات التاريخ باردة، والجغرافيا الشاسعة في وجود الجدود وحراسها زنازن قاسية.
وقد كنت عزلاء، بلا انتصار، بلا حكاية، أبحث عن مجد، عن صورة لحائط بارد، عن نفس دافئ ينعش صدر وليدتي، عن وهج ينير القمر، وعني. وحين خارت قواي تماما ارتميت على أديم لزج بارد، ومددت يدي في الفراغ، عساها تستوقف وليدة تدحرجت مني قبل الأوان، صارت كرة تتقاذفها الأقدام، تتنطط، تصطدم وترتطم، تكلم فتدمى، ولا تتوقف. أطلقت خلفها آخر صرخاتي اليائسة فهتف بي من ورائي نبض السحر:
– دونك، فصغيرتك منذورة لليل، وكتب التاريخ لا تحتفي بسقط الحكايات، بشائه الصور.