عندما لا ترحل اللقالق

على أبواب الشتاء ترجل عن مأواه، زوادته جاهزة مذ حشرجت أوراق الخريف، وقد ودع عشه والمدينة بما يليق، ففاجأه المطر على حين غرة، تسلل إلى كوة بالبرج العتيق، تابع من هناك انصرام اليوم وتعاقب وعيد الرعد وزمجرة البحر تنقلهما السموم، تقذف بهما النوافذ والأبواب الموصدة فتوشك تنخلع. لم المخاتلة؟ همس لنفسه محبطا، قد فاجأه الشتاء ولم يستقرئ شفرة الطقس، فهل أصابت حواسه عدوى وباء داهم البشر أم هو الخرف والهرم؟

كان السؤال غريبا، وأغرب منه المدينة المتعبة تزحف كعقارب ساعة ضجرة ذات ليل بارد طويل، ولم يكن قد تعرف على المدينة من تحت، من الإسفلت، فقد أدمن رؤيتها من شاهق مآذنها، قبابها، أبراجها، أعمدة النور، سطوح الدور وسهام الدخان الصاعدة تكْلُم وجه السماء.. لم يعرف المشي في الدروب والزقاقات المتربة، لم يخبر تعقب الفتات في القمامات، هو اللقلاق الآنف، لا يشارك الزاحفين لزوجة الطين؛ عشه قمة سامقة وطعامه صيد يأخذه عنوة كالفاتحين، يغرس فيه منقاره فإذا هو طيب مستساغ. ثم هو يدرك تماما أن اللقاء بميعاد والبقاء بقدر، حتى إذا أطبق عليه البرد ارتحل، ببساطة وحزم.

هكذا كانت الأمور، واضحة جلية إلى أن هوى جناحه القوي، تدلى محاديا ساقه الطويلة كعلم منتكس، كشارة استسلام يحملها المحارب المنهك وقت الهزيمة ولا يلوح بها، فأعلام الانكسار ذليلة لا تخفق ولا ترفرف.

قرصه الجوع فتدحرج إلى الإسفلت، لدغت قدمه الأرض واستشعر برودتها، باغثه النباح فجفل، للأرض أسيادها وقوانينها، والمتهاوي من السماء لاجئ منبوذ، كان ذلك درسه الأول، أما الدرس الثاني فالتواري، تصيد الدفء الهادئ، تسلق الجدران والأعمدة إلى حيث النور والبهجة، هناك يخطف الفتات وبقايا الأطعمة كما يسترق السمع  ويستطلع الأخبار، فقد تغيرت الأحوال وأضحى جار البشر المتسربل بالظلام يفضحه ريش ناصع، وكان أن حذرت الجدات صغارهن من منقار كالسيف يثقل رأسا صغيرا فلا يملك عليه سلطانا، تقول الأرجوزة أن “بلارج” فقأ عين ابنه من محبة، وأن منقاره كالسيف، غير أن الذي برأس لقلاقنا ثلم، فصار كأنوف البشر يدس في ما لا يمت للقالق بصلة، ثم يحشر صاحبه في أصعب الزوايا وأغرب المآزق. وقد كان آخر اللقالق فحز في نفسه أن يتردى في لمح البصر، كفجأة البرق إذ يطعن الليل فيخلفه جثة باردة هامدة، فهل يسلو الناس حارس المدن العتيقة وارث القصور والحصون؟ البشير الذي لا يخطئ نبأ الغيث والمطر؟ وأنه الشامخ الذي يرنون إليه في إعجاب ويشيح عنهم نحو السماء في شمم؟

مقالات مرتبطة

شاء التطلع إلى عشه القديم، لم يبلغه، وقد كل بصره عن مطاولة الحصن التليد، ثم إن السماء من الأسفل تبدو بعيدة جدا، وغريبة حقا، أما عشه النائي فقش يواجه العوادي. نكس هامته وقد ضن على الأنجم بتلألؤ الملح على هدبه الشائبة، قد صار أرضيا، فلا ضير في أن يبحث عن قوته في الوحل ويشيح عن السحاب. أتته من مطبخ رائحة السمك يقلى على نار هادئة فمنى الحويصلة بعشاء دسم يدفئها، أغمض عينا لاهية عن كسر في الجناح وساق متورمة تشكو الدبيب على الإسفلت، ثم تسلق الجدار. أومض الأمل في عينيه حين أشار غر بأصبعه إلى كومة الريش المكورة على حاشية النافذة:  

-لقلاق، لقلاق، إنه لقلاق… أو لم ترحل اللقالق؟

تطلع الأهل إلى صغيرهم باسمين ثم نكسوا رؤوسهم، فلكل عن اللقلاق الهرم شأن يغنيه. تململ عن مكانه من الحسرة، ود لحظتها لو كان قبرة بعش عند سكة حديد مهجورة، أو بلبلا بهي الريش بقفص ذهبي، أو كان.. أخرجه من غفوته مواء وخربشة متوعدة على زجاج النافدة فعاد بعنقه الطويل ومنقاره الحاد إلى الوراء، إذ لا قبل له بالمخالب ولا بذوات الأنياب الحادة، فقد توازنه فهوى.  

كان سقوطه هذه المرة مدويا وإن لم يثر إلا الكلاب المنبوذة، ركض بكل قوته والنباح في أثره بينما جناحه المكلوم يكنس الدروب، ينزف دما وخيبة آخر العمر، لم يعد يرقب الصيف ولا أوبة الرفاق، لم يرم الانعتاق! أغمض عينيه على الروابي الخضر وصور الهضاب، فرد جناحيه تماما واشرأب بعنقه نحو السماء، عاد بمخيلته إليه كما كان، أبيض الجناحين يناجي الغمام، رقص كطائر نحام، رفرف نسرا قويا، زعق في البرد والليل والهوان قبل أن يصطدم ببرميل صدئ، فتوقف مستسلما وقد أحيط به. لمع تحت وهج القمر ناب فضي وبسمة ظفر. هو العشاء الدسم قد جاءهم يمشي على اثنين، نحو حتمية القدر.

1xbet casino siteleri bahis siteleri