قارب الأحلام السرية

في تلك الليلة كان الظلام حالكا والجو شديد البرودة، هي الليلة التي قرر فيها الفتى الذهاب في موعد أعمى، إما أن يلقى الموت أو أن يلحق بالعابرين الذين نجوا وعانقوا أرض الأنوار. لطالما وقف أمام البحر مغازلا أمواجه آملا أن يكون راحلته لأرض الأحلام، وأن يلقى في شساعته فرصة لآماله الموؤودة، حلم الوصول للضفة الأخرى هو الوحيد الذي لا يزال يغري خياله بعدما أجهضت أحلامه في الوطن. وراء هذه الأمواج يوجد مفتاح الأمل الذي ضاع، حتى أنه لم يعد يبحث عن شيء هنا، خلف الأفق أولاد الجيران الذين تغيروا بعدما اجتازوا البحر وكأنهم ولدوا من جديد، وأصبح أهلهم يتشوقون لأخبارهم أما هو فلا يشتاق له أحد.

هناك في البلاد التي أغلقت أبوابها دون من هم مثله لم يتبق إلا باب البحر، لطالما باح له بخواطره، وهو الآن أمامه عازما أن يختبر تعاونه لعل العشرة تشفع له ويلين الموج هذه الليلة له ولرفقائه في المغامرة، ستبقى هذه الرحلة سرية إن أكملت مسارها أو تصبح عنوانا في الصحف والجرائد إن تعثر الحظ ولم تكتمل.

في انتظار المركب، مرت الساعات كالسنوات، لكن تسارعت الأحداث بعدما صعد الشباب للقارب البسيط يحملون أرواحهم وأحلامهم الثمينة، وانطلقت رحلة الهروب مسرعة، لا وسائل للنجاة أو الوقاية في سفرهم سوى أكف الدعاء محمولة للسماء تسأل المولى اللطف في الأقدار.

وسط البحر تعطلت حواس الفتى الخمس، وحدها ذاكرته التي كانت تشتغل بأعلى كفاءة، تمر في ذهنه بسرعة كل صور حياته التي أوصلته إلى هنا، ليزداد إصرارا على مغامرته ويرمي بالشك والتردد في البحر، يذكر أمه وتنسكب الدموع من عينيه الذاهلتين بدون أن ترمشا، يفكر فيما سيترك إذا غرق في البحر، غير الألم والحسرة، ومع أول موجة هائجة تضرب القارب، يقفز قلب الفتى ليقض حنجرته، ويسري في عروقه خوف بارد فترتجف فرائسه، يفقد التوازن من الفزع، فلا تلبث إلا أن تعاود موجة تانية لطم القارب المتعب، ليسلم حمولته الثقيلة للبحر بدون تردد، وفي رمشة عين صار الماء يغمر جسم الفتى وكان موعد الموت محتوما.

ما أسرع الموج في طمس الأحلام، ما أقساه حين لا يعطي لمن استأمنه أمانا، وما أحلاه في عيون الشباب لما يبيع لهم الأوهام. ليس شغبا أو حماقة من حماقات الشباب، لكنه خليط من اليأس مع قليل من الأمل ما دفع به نحو أعالي البحار، ليلقي بشباك الحظ علّها تصطاد بعض الأمنيات من وسط المخاطر. لكن، كان هو صيدا للبحر هذه الليلة وكان الطُّعم خلطة من خيبات أمله المرصوصة مع كلمات الشامتين، ورغم مرارة الطعم ابتلعه وأتى إلى البحر يرجو به النجاة، لكن لا بد للبحر أن يغذي كبرياءه ببعض المغامرين لتبقى لأمواجه هيبتها وليحفظ مقامه في قلوب الورعين.

هي نفس الليلة تمر دافئة وهادئة على المسؤول الذي يتقلب على سريره الوثير الذي حرصت زوجته على اختياره من أجود وأريح ما يتوفر بالسوق المحلي، ينام بهناء وليس بالغد زيارة من رئيسه ولا لجنة معاينة تؤرقه، لا شيء يشغل باله هذه الليلة فحتى عطلته الصيفية تكلفت زوجته باختيار الوجهة وترتيب برنامج السفر، ينام بعمق بعدما رقد ضميره في غيبوبة طويلة، كان بدوره شابا من أبناء الشعب المؤزوم لكنه استطاع ان يستبدل جلدته ، تعلم فن التجارة بالمصالح وبيع الوهم لمدمنيه، اجتهد كثيرا حتى صعد في سلم المناصب ثم وضع ثقل الأمانة من على كاهله ورمى بها في الوحل، وحمل طموحه اللامحدود في السلطة، خفيف باله كالريشة لا يلوم نفسه في سبيل أهدافه الكبيرة، لا تكفيه مسؤولية صغيرة في المدينة بل يسعى لأن يتولى أمور الجهة ولما لا أكثر من ذلك، يتوق لأن يرسخ اسمه بين الكبار ليسهل الطريق على أبنائه الذين يكفيهم ذكر اسم أبيهم المسؤول فلان كي لا يضطروا لسلك المسارات الوعرة الخاصة بأبناء الوطن العاديين، لا يهم ماذا وكم سيبيع لأجل ذلك، حتى ولو غرق كل من في المدينة في البحر محاولين الهروب منها، سيقلب صفحة الجريدة ولن يقرأ تفاصيل الخبر فهم في عينه مجرد أرقام وصور.

تشرق شمس الصباح على المدينة وبحرها، يستفيق المسؤول، يفطر على رسله ويسعى في خدمة مصالح الوطن، منها التي تشبه مصالحه، ويرجع الفتى ورفقاؤه جنائز قد سلب الموج ما تبقى في جسدهم من حياة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri