عِلم أم دَجل؟

في زمن الطفولة، وفي مدينتي الصغيرة كان يقام كل سنة موسم يسمى موسم الرݣراݣة، يكثر فيه الرواج وتعرض فيه مختلف السلع من بينها “دوا البرغوت” والحبة السوداء ومرهم ألم المفاصل وحلوى الموسم، وتقوم فرق الخيالة بفن التبوريدة الجميل بالإضافة لبعض التقاليد الاستعراضية بالخيل، يتوافد الزوار الأوفياء للموسم من كل مكان، وبين الوافدين يأتي بعض الدجالين ممن يسمون أنفسهم أشرافا، يجوبون الدروب لعرض خدماتهم في قراءة الطالع وعلم الغيب، وأغلب زبنائهم نساء.

فهذه سعيدة تريد أن يستقيم حال زوجها، فيخبرها الشريف أنه سيعطيها ‘بركة الأشراف’ ويدعو لها ليصبح زوجها خاتما في إصبعها، وتلك مريم تتمنى لو يخطبها ابن الجيران فيطمئنها أن ابن الجيران سيأتي طالبا راغبا وما عليها إلا أن تصبر، وأنها ستأخذ من عنده “بركة الأشراف”، والأخرى يدفعها الفضول لتعرف من تحسدها وتبيت لها الغدر من جاراتها وقريباتها، فيبدأ في تجريب بعض الأسماء الدارجة التي لا يخلو منها أي بيت.
-ما اسمك؟
-فاضمة
-هل تعرفين إحداهن باسم خديجة؟
-نعم
-انتبهي جيدا فهي تحسدك ولا تريد لك الخير! ومن مينة؟
-لا أعرفها
-وحليمة؟
-هي بنت عمتي
طريقها ليست سالكة وقلبها أسود من جهتك ولكنك ‘مرضية’ لا تخافي أي شيء. كل أمورك ستكون ممتازة وستفرحين هذا العام فرحة كبيرة، وستغيرين عتبة الدار. ثمن هذه الجرعات من التفاؤل تكون عادة بعض الدريهمات لنيل “بركة الشرفاء”. يخطب ابن الجيران ابنة خالته، ويميل حال زوج سعيدة أكثر من قبل، ولا ترى فاضمة أي عتبة جديدة، لكن سوق الشريف المحتال لا يزال رائجا وسيعود كل عام.

لا يزال سوق الدجل رائجا حتى هذا اليوم، غير أن المحتال طور من نفسه وحسن من أساليبه، أزال الجلباب البالي المتسخ الذي كان يربطه بحزام من الوسط، ولبس قميصا رياضيا عليه صورة تمساح، وفي بعض الأحيان يلبس بذلة أنيقة مع قميص وربطة عنق، لم يعد بحاجة لادعاء علم الغيب فقد تعلم بعضا من علم النفس وقليلا من علوم الفيزياء ما يسد به رمقه، ولن ينسى بعضا من علوم الدين ما يصلح منها أن يؤوّل ويتمطط، أو يحرف عن سياقه حسب خطابه وهدفه. ثم يخلط هذا الشيء من العلم مع كثير من التخاريف والشطحات، وإن لزم طبعا بعض الإبداعات العلمية، لأنه قادر على إبداع علوم جديدة وإعطائها أسماء عبقرية.

مقالات مرتبطة

ولأن الجهل والسذاجة لم تعد بتلك الوفرة ولأن بعض الدريهمات لن تكفي بل يلزمه الآلاف، فلن يدعي صاحبنا أنه ‘شريف’ أو أنه يوزع ‘بركة الشرفة’ بل سيطل علينا في جلباب الخبير بعلوم الطاقة والتنمية الذاتية وسيجد لنفسه من الأسماء السائلة ما يسع أي علم يخطر بالبال، كـ’مدرب’ أو ‘لايف كوتش’ مدرب الحياة.

الحياة بشساعة ما فيها من جوانب خاصة وعامة كلها ضمن مجاله، ويستطيع أن يفتي فيها ويعطي زبناءه النصائح اللازمة لحل مشاكلهم من الثقة في النفس، مرورا بالنجاح في العمل والعلاقات الخاصة، إلى تربية الأبناء، وكل ما يمكن أن يفتي فيه ‘الشريف مول البركة’ يمكن لـ ‘الخبير المحتال’ أن يدلي فيه بدلوه.

يطول الكلام، لكن، لعل ما جعل الإقبال على ‘الشريف مول البركة’ سهلا في الشارع أمام المارة وفي بعض الأحيان باستعمال مكبر الصوت لبث الحوار، هو الدجل الخفي الذي لا يأتي في صورة الشعوذة الصريحة بطقوسها الشركية ومجامرها، فيظن الزبناء أنه شيء مختلف، مجرد تبرك برجل شريف يعرف بعضا من الأمور الغيبية وليس مشعوذا. وهو ما يقع فيه مرتادو تخاريف الطاقة وقوانين الجذب، يظنون أنهم أذكى من أن يقعوا في شراك النصابين، فهم لا يؤمنون إلا بالعلم، فيأتيهم الدجل على صورة علم من العلوم، له أبواب وأسرار وتجارب، ويقوم على أمره خبراء من العالم الغربي المتقدم الأشقر المنزه عن الخرافات. وما هو إلا سراب يحسبه الظمآن ماء، بعض الكلام المزخرف وشحنة من التحفيز والتشجيع لا يدوم مفعولها طويلا بعد الدورة التدريبة، فيحس المتدرب بحاجة لدورة أخرى، كمن يأخذ مسكنا للآلام يكفيه بضع ساعات فيحتاج لجرعة جديدة ثم يذهب فيشتري مسكنا ثانيا.

من دون شك، ليس كل ما يقدم في مجال التنمية الذاتية خاطئ ولا أساس له، فهناك الكثير من الجوانب يتم استيرادها من علوم مؤسسة كعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد، لأن كل باطل لا بد له أن يخلط ببعض من الحق ليكسب القبول. ولكن قوانين الطاقة والجذب لا علاقة لها بقوانين الفيزياء بل هي تشبه كثيرا قانون ‘بركة الشريف مول البركة’، نفس الشيء ولكن هناك من يحب الكوتش.

1xbet casino siteleri bahis siteleri