حوادث تَقتُل ومن نجا منها تحييه!

عشتُ في الأسبوع الأول والثاني من شهر دجنبر الماضي حادثين مفاجئين ومروعين، أولهما حادثة سير خطيرة للغاية، حدثت لي في الطريق السيار الرابط بين مدينتي الرباط والقنيطرة، والثاني موت الصحفي المقتدر صلاح الدين الغماري، الذي كنت على معرفة وثيقة به. وقد كان لهذين الحادثين أكثر من مغزى ودلالة، وأثر عميق عليّ، أحاول أن أستذكرهما في هذا المقال.

في أواخر شهر مارس الماضي، أرسل لي الصحفي صلاح الدين الغماري رسالة في البريد الإلكتروني يدعوني فيها للمشاركة في برنامجه حول كورونا، والإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بهذا المستجد، والتي يطرحها المشاهدون لبرنامجه “أسئلة كورونا”، ثم تحدث معي بعد ذلك حول الموضوع. ولم يكن يسعني إلا أن ألبّي دعوته، وكانت أول مرة سأشارك فيها في برنامج تلفزيوني من هذا النوع، أمام صحفي مقتدر، قضى أكثر من عشرين سنة من العمل في ميدان الصحافة والتلفزيون، معظمها في تقديم البرامج التلفزيونية والأخبار المباشرة. ومعلوم أن برنامجه “أسئلة كورونا” من أكثر البرامج مشاهدة في ذلك الوقت، حيث كان يحصد أكثر من عشر ملايين مشاهدات يوميا.

في يوم اللقاء التلفزي، ذهبت إلى مقر القناة والتقيتُه. كان غاية في اللطف واللباقة وحسن المعاملة. أتذكر أنه لم يكن يناديني باسمي الشخصي ألبتة، بل شديد الحرص على أن لا يناديني إلا بالدكتور، مبالغةً منه في الالتزام بالمهنية وتقدير الضيف واحترامه. رحّب بي ترحيبا حارا، وشكرني غاية الشكر على مبادرة شفاء ـ ومن خلالي كل فريق مبادرة شفاء ــ ثم أثنى على أسلوبي في تبسيط المعلومة وتقريبها بشكل يسهّل على الشخص العادي فهمها واستيعابها. بعد ذلك شرعنا في الحديث عن طريقة إنجاز الحلقة، وقدم لي الأسئلة التي سيطرحها علي لأطلع على فحواها، وطلبتُ منه أن يعرّف بمبادرة شفاء حتى يتعرف الناس عليها. كنا في بداية انطلاقة المشروع حينها، واحتجنا إلى الدعم والإشهار حتى نستطيع أن نضمن متابعة معقولة لمحتوى نعتبر أنه فريد من نوعه في المغرب.

في الواقع، كنت متفاجئا بمهنية صلاح الكبيرة في البداية، وقدرته على التنظيم بشكل سريع، حيث لم يحتج إلا إلى عشرة دقائق في تنظيم الحقلة قبل بدايتها. لم يكن يعلم أنها المرة الأولى التي أشارك فيها في برنامج حواري تلفزيوني من هذا النوع، وللبدايات دهشتها، لكنه استطاع بشخصيته وحسن تعامله أن يبعث عندي ارتياحا واطمئنانا قبل بداية اللقاء.

أوصاني أن لا أكون متوترا أثناء البث قائلا: “دكتور، كن شجاعا ولا تخف، وأنت ـ ما شاء الله ــ إنسان مثقف ومتهيء دائما لمثل هذه المقابلات، لا تحتاج إلى إعداد مسبق”. ثم ترك المجال مفتوحا لي، ولم ينصحني بما أقول وما لا أقول، وإنما ذكّرني بأن الكثير من المغاربة يتابعون اللقاء، وأن رأي الطبيب سلطة علمية، وخاصة في هذا الوقت، ولذلك ينبغي التركيز والحذر قبل إرسال الكلام. أنجزنا اللقاء، ومرت الأمور على أحسن ما يرام.

ومنذ ذلك اللقاء، بقيتْ علاقتُنا الإنسانية جيدةً، نتواصل من حين لآخر. وفي أواسط شهر نوفمبر، اتصل بي مرة أخرى، وتحدثنا تقريبا لمدة خمسين دقيقة حول برنامج كان بصدد الإعداد له، سماه “صوتكم”، وكان مقررا أن يكون مرافقا لعملية التلقيح، التي يستعد لها المغرب، وقيل حينها: إنها ستكون في الأسابيع المقبلة، قبل أن تُصبح تلك الأسابيع شهورا، وهي إلى الآن قابلة للتمديد والزيادة، ونرجو أن لا تتحول إلى عام أو يزيد. في تلك المكالمة، اقترح علي صلاح الدين أن أكون ضيفا معتادا لبرنامجه، يأتي بانتظام من حين لآخر، مرتين في الشهر على الأقل. وكان غرضه من البرنامج إقناع الناس بضرورة التلقيح وأهميته في الحفاظ على صحتهم وعلى الصحة العامة، وطمأنة الناس بأن الوباء على وشك النهاية، وأن التلقيح هو الضامن أن هذه الجائحة ستنتهي.

ولم يكن صلاح الإنسان العادي يختلف عن صلاح الصحفي المحترف؛ إنسان كثير اللباقة والاحترام للآخرين، ومحاور جيد ونبيه. وأنا أحاوره استشعرت حبه الشديد لما يقوم به، وغيرته القوية على هذا الوطن. كنا نتحدث في كل الأوقات، ولم يكن يميز بين وقت العمل وغيره، كنا نتحدث في الليل وفي نهاية الأسبوع، وليس في أوقات العمل فقط. ولم تمض إلا أيام على تلك المكالمة، حتى فوجئتُ بخبر موته، ليس بوباء كورونا الذي ظل قرابة العام في التوعية به وبأخطاره ووجوب الحذر منه، ولكن بسكتة قلبية مفاجئة، ألحقته بالرفيق الأعلى، في يوم حزينٍ للغاية. وهو الحدث الذي وحّد حسابات المغاربة على الفيسبوك، وجعلها كلها متشابهة، تنعي وتترحم على الفقيد. ثم جاءت جنازته والتي كانت، رغم الوباء، جنازة مهيبة، تليق برجل وطني غيور، وتدل على حجم الحب الذي يكنه المغاربة لهذا الرجل.

وقبل أربعة أيام فقط من موت صلاح الدين المفاجئ، كنتُ قد تعرضت لحادثة سير خطيرة في الطريق السيار الرابط بين مدينتي الرباط والقنيطرة. وكانت حيثيات هذا الحادث تتلخص في أن صديقا لي اسمه عبد الله، سافر إلى أيرلندا في العام قبل بداية الكوفيد-19، وبقي هناك طيلة مدة الإغلاق الشامل التي عرفها العالم في بعض الأوقات من العام المنصرم، وهو صديق تجمعني به صداقة قوية جدا. وقد رجع مؤخرا إلى المغرب، لكنه كان قرر الهجرة من الوطن والاستقرار هناك بشكل دائم. بعد عودته، انشغل بإعداد الوثائق التي سيحتاجها في الهجرة هو وزوجته، وتزامن ذلك مع تراكم مشاغل كثيرة علي أيضا، لم أستطع بسببها أن ألتقيه، مع أنني كنت حريصا غاية الحرص على ملاقاته قبل سفره، وقمت بكل ما يمكنني القيام لأجل ذلك، ولم أنجح؛ إذ في كل مرة يظهر مانع ما لم يكن متوقعا.

ذهب صديقي إلى المطار للمغادرة، لكنه فوجئ بمنعه من الطيران بسبب أنه لم يكن يتوفر على شهادة طبية تثبت خلوه من الكوفيد-19، بعد أن أخبروه أنه من دون هذه الشهادة لن يستطيع الطيران، فأجل السفر لبضعة أيام، ورجع إلى مدينة القنيطرة. في ذلك اليوم، اتصلت به لأعتذر له عن عدم قدرتي على ملاقاته في المطار أثناء مغادرته. وعندها أخبرني أنه سيبقى لأربعة أيام إضافية، وقداستبشرت خيرا بذلك، وأعلمتُه أنني قادم في الحين لرؤيته، وكان ذلك ذات يوم الأحد. اتجهت إلى مدينة القنيطرة وحدي، وكان الجو ممطرا، ثم بعد حينٍ أشرقت الشمس، ثم لاح لي قوس قزح جميل، وشرعتُ أتتبعه بعيني من حين لآخر وأنا أقود السيارة. لم أكن أدري ماذا دهاني في ذلك الوقت، ربما كنت أريد معرفة نهاية ذلك القوس الجميل. وفي لحظة ذهول مني أجد أمامي سيارة تسير بسرعة بطئية جدا، وكنت أسير بسرعة كبيرة لم أتمكن معها من استدراك الموقف، فصدمتها.
كانت حادثة خطيرة للغاية، لم يسبق لي في حياتي أن عشت ثانيتين خطيرتين من ذلك الحجم، كنت مصدوما، لم أستطع استيعاب الموقف لدقائق معدودة. بعد حين بدأت أعي، رأيت الدخان يخرج من السيارة، وأدركت أنني قمت بحادثة سير، حركت يديَّ إذا بهما تتحركان، حركت رأسي هو كذلك يتحرك، نظرت إلى المرآة لم أجد دما، فتحت الباب ونهضت. الحمد لله، أنا بخير؛ أستطيع التحرك والمشي بشكل طبيعي، استوعبتُ حينها أنني معافى، لم أتعرض لأي مكروه، ولم أصب بأذى.

مقالات مرتبطة

كان لطفا إلهيا كبيرا، وفضلا كبيرا منه أنني لم أصب بأي شيء، وكانت السيارة تتوفر على كل ما يلزم من معدات السلامة. ولولا فضل الله لكنت الآن في الإنعاش أو ربما في القبر ميتا. ومن بليغ إكرامه لي أن الشخص الذي صدمت سيارته هو أيضا كان في غاية اللطف معي، وحاول أن يطمئنني، ويخفف عني هول الصدمة، بتذكيري أن ما حدث لي هو أمر طبيعي يحدث دوما لكل الناس، وأنه لا بأس، طالما أنه ليست هناك أضرار جسدية، ما عدا ذلك هو قابل للتعويض. أخبرتُ إخوتي بالحادث، والتحقوا بي مسرعين، وقاموا بما يلزم القيام به بكل مسؤولية وأخوة وتفان، ومرت الأمور بخير.

قد تكون هذه السنة مليئة بالأخبار السيئة وبالأحزان وأخبار الفقدان. وفي نفس الوقت، ربما عشنا فيها لحظات ذات معان إنسانية كبيرة، لكن في تجربتي الشخصية، تظل هذه الحادثة بتفاصيلها وتوقيتها ونتائجها، من أحسن الأشياء التي حدثت لي هذا العام. قد يكون هذا الكلام باعثا على الدهشة والاستغراب، لكن خروجي سليما معافى من هذا الحادث، يُرشّحها عندي لأن تكون أهم شيء حدث في حياتي هذا العام، وقد تكون من أهم المواقف التي خبِرتُها في حياتي على الإطلاق.

كنتُ أحتاج إلى لطفٍ إلهي لأتنبه، لأن أدرك، لأن أستوعب أن كل ما أقوم به، وكل ما أسعى إلى تحقيقه وأتعب في سبيله، هو أمر قابل للزوال في أية لحظة، بل ربما في ثانية واحدة. قد نردد الكثير من الحقائق بألسنتنا، ولكن عيش التجربة دائما يختلف عن التأمل المجرد أو الحكاية أو مجرد لوك الكلام المكرور. التجربة تجعلك تتحقق بالأمر؛ دالٌّ جدا أن تعيش موقف “رؤية كل شيء وهو مقبل على الزوال وكأنه لم يكن”.

إن ذلك الحادث حقا جعلني أعيش لحظات فلسفية ووجودية راقية جدا، ورسخ عندي أن الإنسان يحتاج إلى أن يقطع الصلة نهائيا مع العادة القبيحة؛ عادة التسويف والتأجيل، عليه أن يعيش مع الناس الذين يحبهم، أن يحافظ على متانة العلاقة وتجدد الصلة بمن يحبهم، أن يعيش لحظاته الممتعة في الحياة بما يلزم من معاني العيش والإقبال، أن يتواصل مع والديه بشكل منتظم، أن يقضي أكبر وقت ممكن مع عائلته ومع أولاده، أن يقوم بما يلزم القيام به لتحقيق ما يريده من إنجازات وطموحات، وإذا كان له مخطط ما عليه أن يعجل بالبدء في تنفيذه. الحياة لا يمكن التنبؤ بمستقبلها، لا شيء مضمون في المستقبل، اللحظة هي كل شيء في حياة الفرد.

احتجتُ إلى أيامٍ لأخرج من التفكير المستغرق في هذا الحادث، وقد لاحظت بعد ذلك أن سلوكي اليومي بدا متغيرا، صرت أكثر حرصا على وقتي وتعاملي مع المرضى الذين يزورونني في عيادتي، لا أرد على المكالمات أثناء عملي. قد أدركتُ أخيرا أن كل شيء قابل للانتظار حتى أنتهي مما أقوم به، بعيدا عن التوتر والإرهاق والضغط.

ولم أكد أتعافى من هذا الحادث، حتى جاءني نبأ وفاة صلاح الدين الحزين، وكان بمثابة درس دعم وتقوية لما مضى علي في الأسبوع الذي قبله، وكأن الأقدار تلح عليّ: “أنْ تعلَّمْ الدرسَ”، والدرس كان هو: “كل شيء فانٍ، من غير موعد سابق”. ربما إذا أردنا السفر في هذا العالم نحتاج إلى حجز الموعد ودفع ثمن التذكرة مسبقا، لكن السفر عن هذا العالم رغم أن ثمنه هو روحنا وحياتنا، يكون من غير تحديد موعد مسبقا، ونعوذ بالله من موت الفجأة.

ميزة الإنسان أنه كائن عاقل، وما تفضيله على غيره من المخلوقات إلا بفضيلة العقل. لكن هذا العقل قد يُشقيه حين يُطلق له العنان من غير قيد، وحين لا يستعمله برشد. والرشد يقتضي أن يُسخّر كل إنسان حياته لما هو قادر عليه، أن يعيش حياته بالطريقة التي يريد، لكن في انسجام مع قانون العقل والحكمة، وبحسب المؤهلات التي يتوفر عليها؛ فكل شخص منا له مؤهلات معينة، وله مميزات صالحة لنوع معين من الحياة، وتلك هي الحياة التي عليه أن يعيشها، وأما الأوهام التي تجري وراءها فهي مانع من الحياة.

كانت هذه بعض الأفكار التي نتجت عن الحادثين المذكورين، احتجت إلى وقت طويل لكي أكتبها وأصوغها على هذا الشكل، وقد حفزني أكثر للكتابة عن الموضوع مشاركتي في قافلة لـ رواء إلى إحدى مناطق المغرب النائية لحفر إحدى الآبار هناك، اخترنا أن تكون على روح الفقيد صلاح الدين الغماري. والحقُّ أن هذين الحادثين جعلاني أجدد التفكير في حجم العمل الإنساني التطوعي في حياتي، وضرورة إيلائه الأهمية القصوى، وتخصيص وقت طويل له ضمن برامجي ومخططاتي كل سنة. والمأمول أن تكون الخطوة المقبلة هي تطوير مشروع شفاء، وتحويله من مشروع إعلامي فقط، قصده التوعية بالأمراض والوقاية الصحية إلى مشروع على الأرض، يقدم خدمات طبية جمعوية، وخاصة في المناطق القروية والبعيدة، مع الإبقاء على الخدمات الإعلامية في المشروع.

وأنا أكتب هذا المقال، كنت أعي جيدا أن الإنسان ينفعل باللحظة، ثم سرعان ما يعود إلى سابق عهده؛ فقد أنسى كل شيء بمرور الوقت، وأعود إلى التسويف مرة أخرى. ولذلك قررت أن أكتب هذه الأفكار كلها حتى تكون الكتابة شاهدة علي، وأوثق هذه اللحظات والمشاعر والمخاوف حتى أتذكرها وأعود إليها عند الحاجة.

فما أسهل أن ننسى كل شيء، وقد نعزو ذلك إلى التطور في أفكارنا ورؤانا للحياة، وكَم هو يسير أن يُوهم الإنسان نفسه. ودور الكتابة أن تقيّدنا وتذكّرنا!

1xbet casino siteleri bahis siteleri