دواليب

دواليب تدور حولنا وندور حولها صباح مساء غير عابئين بما ستؤول إليه الأوضاع، نستيقظ صباحا على صوت الهاتف وننام ليلا ونحن ضاغطين بأصابعنا على زر الحاسوب، ويتكرر المشهد نفسه يوميا حتى يصير روتينا لا غنى للإنسان عنه، يصبح الخريف شتاء والشتاء ربيعا، ويصير هذا الأخير صيفا ونحنا لا نزال نتأرجح في نفس الدوامة، نعم إنها الحياة العامرة الفارعة.

تخرج من منزلك صباحا لتلتقي بأناس عابرين وآخرين مألوفين وصنف ثالث تائه، هذا عابس ويشتم والآخر يتذمر وقليل الشكور الحامد لنعم ربه، فزيادة على كل مشاغلنا ومشاكلنا وأعبائنا اليومية نضطر لمواجهة كل هذه الأشياء الخارجة عن إرادتنا؟ حياة مليئة بالفوضى والضوضاء، ضجيج وصداع رهيب في البيت والعمل والشارع، حياتنا أصبحت عبارة عن سلة مهملات، عقولنا تحجرت ومشاعرنا تبلدت، أصبح الناس لا يجيدون ثقافة الحوار، أضحى الجميع متعصبا لأفكاره يروم فرض فلسفته على الآخرين بكل وقاحة وتعسف.

لكن دقيقة، ألم يحن الوقت للتوقف قليلا ومحاولة القفز من قطار الزمن والعيش على هامش الحياة ولو لساعة واحدة بعيدا عن دينامو الحياة الممل والمزعج؟ تأمل، سافر، اقرأ فالشخص الذي لا يقرأ لا يكون في درجة أعلى من الشخص الذي لا يعرف القراءة، اكتشف في نفسك هوايات جديدة، قارن نفسك بنفسك، عش ليومك، عش حياتك، غادر عالمك واتجه نحو عوالم أخرى أكثر أمنا واستقرارا، احلم ولا تتمنى وعش حياة كاملة لأن لديك حياة واحدة، لا تدع نفسك رهين ماضيك أو أسير حاضرك.

في إحدى المرات قرأت كتابا للمؤلف الكندي من أصل هندي “روبن شارما” بعنوان “الراهب الذي باع سيارته الفيراري” يروي من خلاله قصة محام ناجح، يكرس حياته لقضاياه وإنجازاته، فحياته كانت مغرية لدرجة أن من يراه يعتقد أن تلك هي الحياة السعيدة، رجل وسيم، ومحام مثابر وصلب لا يخشى شيئا، يعمل ساعات طويلة دون توقف لتحقيق أحلامه. حقق بطلنا “جوليان” ما كان يحلم بتحقيقه معظم الناس، سمعة مهنية لامعة، قصر رائع، طائرة خاصة، بيت صيفي على جزيرة استوائية وسيارته الفيراري الحمراء اللامعة لكنه كان يرمي بنفسه للتهلكة من ضغط العمل.

في يوم من الأيام سقط مغشيا عليه وهو يترافع في إحدى جلساته وسط قاعة المحكمة من فرط التعب، وكان السبب أزمة قلبية، فقد طاقته ولم يعد قادرا حتى على الضحك، أصبح إنسانا آليا تحركه المواعيد والالتزامات، شكله تغير وكبر في السن واستوطنت التجاعيد وجهه نتيجة نمط حياته غير الصحي وغير المتوازن. إلى أن قرر تغيير حياته بعد أن حذره الأطباء مما ستؤول إليه الأمور، إما مفارقة القانون أو مفارقة الحياة فلم يكن بوسع جوليان إلا أن يستجيب لنداء روحه، باع كل ممتلكاته وسافر إلى الهند، البلاد التي لطالما سحرته ثقافتها وتقاليدها الغامضة، تعرف على رهبان جبال الهيمالايا، صارت حياته بسيطة مفعمة بالحيوية والنشاط، فحياته كانت مسألة اختيار واختياره هذا كان الأصح.

تتلمذ جوليان على يد حكماء السيفانا، تعلم أن التحكم في الذات سيحول دون عودته لفوضى الأزمة، بدأ يدرك جمال أبسط الأشياء كالليل والشمس والقمر والنجوم والطبيعة وصوت الصباح وحتى رائحة الليل. بات لجوليان عالمه الداخلي الهادئ تأكد حينها أن النجاح الظاهري لا يعني شيئا إذا لم يصاحبه نجاح داخلي أي التصالح مع نفسه واكتشاف ذاته العليا.

أيقنت آنذاك أن هذه الحياة أمانة علينا رعايتها والاعتناء بها؛ فالراحة النفسية تتأتى بالراحة الجسدية، أي الابتعاد عن القلق والتوتر وحتى لو وجد على الإنسان أن يكون محصنا ضد أي ضغط خارجي كما قال الطبيب الجراح الفرنسي ألكسيس كاريل: “إن الذين يستطيعون ضبط أنفسهم وأعصابهم وهم في ضجيج وصخب، لأنهم بلا شك بعيدون كل البعد عن القلق والأمراض العصبية كالانهيارات.”

وأنا أقول إن العقل والجسد وجهان لذات واحدة فاسقرارهما وتوازنهما يساعد على صناعة الإنسان المتكامل جسديا وذهنيا وروحيا، فحين يدرك الفرد أن لديه حياة واحدة حقيقية حينها سيكون مجبرا على بدأ حياته الثانية من جديد وكأنه خلق حديثا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri