أ غرباء نحن؟

خلوت بظلمتي وسألت ليلي عن غربتي فسقى عطشي بنهر مقلته ثم أجاب: “سيدتي، لقد شط بها النوى وتناهبها الوجد فاستعارت أشلاء الصمت ونامت فوق الثرى.” قذفني سريري للسهاد وكأنني مجبرة على وغول المتاهة لتحرير مهجتي، بل وصدمني بذلك. أحقا دفنت ذاتي في حبر سؤالي؟

غريبة عن نفسي

ينتابني أحيانا شعور غريب، شعور بالغربة بحد ذاتها كأني ارتويت من كأس جشمته المرارة حتى غدوت في تنغص من قاعه، غصة تلو أخرى في حلقي أتجرعها، وأشواك مرورها تذبح جسمي الضئيل وليس لي من معين. حنو كؤود وصفه أقل ما يقال عنه أنه تكبل بقيود عضلة محكمة زال معها عبيري وماتت معها كلماتي، فابتلعت داخل حفرة من أغلال أكلها الصدأ، وفي المقابل آلمني فؤادي وانكوى. لا شيء ناضج، فكل الجذور ميتة حتى دموعي لم تفلح في أحيائها، فلقد اكتفت بندى جفوني فقط، ندى جلب الطيور عندي فانشرح صدري ثم سد حين سمعها تغرد ألحان الحزن.

مقالات مرتبطة

رغم تقييدي وسط البؤرة، نقبت يمينا وشمالا في الخرائب فذهابي وإيابي مجهولان؛ إذن ليس لي غير المخاطرة سبيلا فدأبت إلى أن وجدت نفسي أمام محطة. محطة أخبرتني عن لواعج الهوى وانسابت بي إلى أن طمستني جوف الوله، شتاؤها القاسي غطى عن باقي فصولها، إذ استنزفت أفرشتي بيد أني لم أكس بعد، فهتاف ارتعاشي ما زال متأهبا حيث إنه كلما اشتدت الزوابع أختبئ وراء أنقاض الجدران كي أطهر جروحي بثوبي المنصول، فآخر دوائي كي وهكذا إلى أن يزورني السنا من جديد، ثم تستأنف الحلقة وتتوالى. مسكينة هي كينونتي اصطلمها الدهر وهي تنبش عن منورها مترقبة صاغي صراخها المجم منتظرة كساءها الحديث.

كلما أظن أنها نهاية سقوط متاعي يهمس لي أن الطريق ما زال منسابا، وناقوس مآل محطتي لم يدق بعد، نفذت أنا ولم يختم هو. حتى ذاتي منقذتي عند غرقي توارت وبت كالمجنونة منطقي يردد أين طوق نجاتي؟ أهرول وأنظر إلى المرآة وإذا بي أجد بدني ولا أجد نفسي. لم أكن أحرز قط أن غربتي ستخلق مني جسدا بلا جوهر وروحا بلا مأوى، ولم أكن أخمن قط أن جنوني سيكون له القدم الأولى، فتلك الخبلة المجنونة لم تكن قط في الحسبان. نعم أجل وها أنا بت بوهة غريبة تجوس أرصفة طريقها المهجور الخالي من العنوان… فعلا يا سادة طريق لا يعود لا إلى مكان ولا إلى زمان.

طريق سرياح ولكن في التأني السلامة فالحلاوة بعد المرارة لها طعم خاص. بحثت وكافحت وأنا كلي إيمان بأن لغربتي أجنحة حين يحين وقتها ستعلي وأن لليوم حتما غد، ليس أي غد بل غدا له ناظر قريب، تيسير أمام عينتاي المضمحلتين كلما أطأطأ رأسي يرفعه من جديد وهكذا دواليك.

كانت ليلة عصيبة لكن لذة تحرير مهجتي كانت أقوى، وها أنا أعود بعد غربتي في حجرتي وكأن شيئا قد تحرر مني، لمعان حريتي سطع بين نجوم سمائي المبعثرة ورتبها من جديد، فشق لي آفاقا جديدة بعد إفاقتي من سباتي العميق. عدت وآثار قيودي منحوتة في معصمي. ولكن في المقابل، حقيبتي غنية بالثمار، أنا الغريبة سابقا والعائدة الآن، وجدت كينونتي المضمرة وأعدت بناءها حيث أخطت لها ثوبا لامعا ورسمت لها سبلا مكتسبة. فما أجمل ثم ما أجمل الوقوف أمام ندوب وكدمات ليلة غائمة لنسج إشراقها بيدين حديثتي الشفاء.