ديكارت: الشك طريق ملكي نحو اليقين

5٬592

سطر رونيه ديكارت (1650-1596) مشروعه الفلسفي في مؤلفين رئيسيين: “مقال فيالمنهج” والتأملات الميتافيزيقية”، ويتلخص هذا المشروع في محاولة إقامة أساس متين للمعارف البشرية، وأول ما يتطلبه كل تفكير صحيح هو اليقين الذي يمكن من “إقامة قواعد متينة وثابتة في العلوم” والنموذج الأمثل لهذا اليقين هو الذي تقدمه الرياضيات، حيث يقول ديكارت: “من هنا نتبين بوضوح الدافع الذي يجعل الحساب والهندسة أكثر العلوم يقينا. فهما الوحيدان اللذان يعالجان موضوعا على غاية من الصفاء والبساطة، بحيث لا يقبلان أي افتراض من شأنه أن تدحض التجربة يقينيتهما، وهما يتكونان في جملتهما من سلسلة استنتاجات استنتاجا عقليا. إنهما إذن الأكثر يسرا والأشد بداهة من بين كل العلوم، وموضوعهما يستجيب لما نشترطه.” لذلك، يمكن اللجوء إليها لوضع قواعد للمنهج الذي لا بد لكل تفكير أن يسلكه باتباعها وهي: قاعدة البداهة أو الشك، قاعدة التحليل، قاعدة التركيب، قاعدة المراجعة.

إن اتباع هذه القواعد قاد ديكارت إلى المزيد من الحرص على اليقين وإلى الوعي بضرورة الشك مرة في حياته في مجموع معارفه، وقد كانت تأملاته التي وضعها في كتاب “التأملات الميتافيزيقية” تمثل محاولة جذرية لمراجعة جميع المعارف، لقد كان الشك المنهجي الجذري هو وسيلة ديكارت للوصول إلى البداهة الأولى التي تقوم عليها جميع البداهات الأخرى: بداهة الكوجيطو، إن تجربة الكوجيطو “أنا أفكر، إذن أنا موجود” تفيد أن حقيقة هذه العبارة لا يمكن الشك فيها، فالتفكير أي الشك والتخيل وغيرهما من الأنشطة الذهنية، يؤكد أن من يفكر يوجد وجودا لا شك فيه. وهذا اليقين لا يترتب عن استدلال بل يترتب عن حدس عقلي لا يتوقف على الجسم وحواسه ولا عن المعارف السابقة لدى الذات.

لذلك، فقد شكل الشك الخطوة الأولى التي لا بد لكل تفلسف أن يبدأ بها إن أراد فحص الاعتقادات والوصول إلى الحقيقة. فما دلالة الشك عند ديكارت؟ وما موقعه من المنهج العقلي الذي صاغه ديكارت في كتابه “مقال في المنهج”؟ وما المبررات التي دعت ديكارت إلى الشك؟ ثم ما هي المجالات التي أعمل فيها ديكارت الشك؟

  • دلالة الشك عند ديكارت:

يمكن القول إن ديكارت لا يقدم تعريفا صريحا للشك، فيقول إن الشك هو كذا وكذا، على الرغم من أن هذه المفهوم تعرض له ديكارت في كل مؤلفاته الأساسية، سواء “مقال في المنهج” أو “التأملات” أو كتابه في “مبادئ الفلسفة”؛ إذ إنه يتحدث عن الشك من حيث هو وسيلة تحملنا على فحص الأفكار وكل ما نعتقد على أنه حقيقة. وهناك مواضع كثيرة ضمن مؤلفاته المذكورة يتعرض فيها إلى ذلك. فيقول مثلا في كتابه “مقال في المنهج” في نسخته العربية المعنونة بـ “حديث الطريقة” للمترجم عمر الشارني: “…لما كنت لا أرغب في الانصراف إلى البحث عن الحقيقة فكرت أنه علي أن أقوم بعكس ذلك تماما، وأن أرفض كشيء خاطئ على الإطلاق كل ما استطعت أن أتخيل فيه أدنى شك، حتى أرى ما إذا لم يبق شيء بعد ذلك في اعتقادي يكون، غير قابل للشك فيه.”. ومعنى ذلك، أنه إذا أردنا إلى الوصول إلى يقين تام وجب علينا ألا نقبل أي شيء لا يكون يقينا مطلقا، وبعبارة أخرى ينبغي أن ينسحب الشك على كل ما ليس يقينا مطلقا، ومن جهة أخرى، علينا أن ننبذ خارجنا كل ما ينسحب عليه هذا الشك، ومن هنا ضرورة اعتبار الأشياء التي ينسحب عليها الشك هكذا خاطئة خطأ مؤقتا، وهو ما يلزم عنه بالضرورة رفضها رفضا تاما، وبذلك يمكن القول إن:

الشك الديكارتي هو شك منهجي كونه يشكل القاعدة الأولى من قواعد المنهج العقلي عنده، وهي القاعدة التي تقرر: “ألا أتلقى أي شيء على الإطلاق على أنه حق، ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك، أي أن أعنى بتجنب التعجل والتشبث بالأحكام السابقة، وألا أدخل في أحكامي، إلا ما يتمثل لعقلي في وضوح وتميز، لا يكون لدي معهما أي مجال لوضعه موضع الشك” فالمطلوب هنا ألا نعتقد إلا بما هو واضح وبديهي متميز في الذهن، لا يطاله الشك أبدا.

الشك الديكارتي هو شك جذري وشامل، كون الشك الديكارتي لا يستثني أي شيء من الشك، ما لم يكن غير قابل لذلك، أي أن يكون واضحا ومتميزا في الذهن. الشك الديكارتي هو شك مؤقت كونه مجرد وسيلة لتأسيس اليقين، وهو شك مخالف للشك الذي مارسه السفسطائيون الذين كانوا يعتبرون أنه لا يمكن بلوغ الحقيقة، وأنه يجب الشك في كل شيء. وهنا يقول ديكارت: “…لما فكرت خاصة فيما يمكن أن يجعل الشيء عرضة للشك، ويحملنا على الوقوع في الخطأ، نزعت من عقلي جميع الأخطاء التي أمكنها التسرب فيه من قبل. وما كنت في ذلك مقلدا للريبين، الذين يشكون إلا للشك، ويتظاهرون دائما بالتردد، لأن غرضي كله كان على عكس ذلك، لا يرمي إلا إلى الظفر باليقين.”

  • موقع الشك داخل المنهج العقلي عند ديكارت:

يمكن القول إن هدف ديكارت المنشود من مؤلفاته الأساسية سواء تعلق الأمر بـ “المقال” أو “المبادئ” أو “التأملات”، أن يقيم الفلسفة على أساس متين يمكنها من أن تكون مجالا لليقين مثلها في ذلك مثل الرياضيات. لذلك، فقد اهتدى ديكارت انطلاقا من استلهامه النموذج الرياضي إلى أربعة قواعد منهجية، سيصوغها على الشكل التالي:

“الأولى، أن لا أتلقى أي شيء على الإطلاق على أنه حق، ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك، أي أن أعنى بتجنب التعجل والتشبث بالأحكام السابقة، وأن لا أدخل في أحكامي، إلا ما يتمثل لعقلي في وضوح وتميز، لا يكون لدي معهما أي مجال لوضعه موضع الشك. والثانية، أن أقسم كل واحدة من المعضلات التي أبحثها إلى عدد من الأجزاء الممكنة واللازمة لحلها على أحسن وجه. والثالثة، أن أرتب أفكاري فأبدأ بأبسط الأمور وأيسرها معرفة، وأتدرج في الصعود شيئا فشيئا حتى أصل إلى معرفة أكثر الأمور تركيبا، بل أن أفرض ترتيبا بين الأمور التي لا يسبق بعضها بعضا بالطبع. والرابعة، أن أقوم في جميع الأحوال بإحصاءات كاملة ومراجعات عامة تجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئا.”

وما يهمنا من هذه القواعد، هو القاعدة الأولى كونها التي تعبر عن الشك، ومعناها أن كل فكرة لا يطالها الشك لا بد وأن تكون واضحة بالقدر الذي يدركها العقل بشكل مباشر دون الحاجة للتدليل عليها، ومتميزة في الذهن بحيث لا تختلط مع أي فكرة أخرى غيرها، ومن ثمة ترتقي إلى مرتبة الحقيقة والصدق. وهنا، يتحدث ديكارت عن هذا النوع من الأفكار البديهية باعتبارها حقائق يدركها العقل بواسطة الحدس Intuition، فالحدس هنا هو كل إدراك عقلي مباشر وأولي لموضوع ما دون الحاجة إلى برهان.

وهنا يقول ديكارت: “لا أقصد بالحدس شهادة الحواس المبتذلة أو حكما خادعا تولده مخيلة تركب موضوعا بطريقة سيئة، بل أقصد به التصور الذي ينشئه الفكر الخالص المنتبه إنشاء على قدر من اليسر والتميز لا يبقى معه مجال للشك حول ما نفهمه…أو هو التصور الذي ينشئه الفكر الخالص المنتبه متولدا عن نور العقل وحده”.

إن مثل هذه الحقائق باعتبارها تدرك بواسطة الحدس، هي التي يستنبط العقل منها كل الحقائق الأخرى، وهنا تأتي الحاجة إلى القواعد الثلاث الأخرى، فالقاعدة الثانية تعلمنا أن نقسم كل الأفكار المركبة والمشكلات المعقدة التي تعترضنا إلى عناصرها البسيطة والجزئية، حتى يسهل حلها، أما القاعدة الثالثة فتدعونا إلى ترتيب أفكارنا داخل نسق خاص، بحيث نتدرج في فحصها من الأفكار السهلة والبسيطة حتى نصل إلى أكثرها صعوبة. أما القاعدة الأخيرة فهي قاعدة الإحصاء والمراجعة؛ إذ تدعونا إلى مراجعة عامة للنتائج المتوصل إليها بعد عمليتي الحدس والاستنباط، فحينما يدرك العقل الحقيقة بواسطة الحدس من خلال رفعه لشعار البداهة والوضوح كشرط أساسي للقبول بالأفكار، ويستنتج عنها حقائق أخرى بواسطة الاستنباط، آنذاك يأتي دور المراجعة والإحصاء كسبيل للتأكد من عدم ترك فكرة ما دون خضوعها للفحص العقلي.

مقالات مرتبطة

إذن، فالمنهج العقلي عند ديكارت يجد أساسه في الشك، كونه هو الوسيلة الأولى التي تؤدي بنا إلى تأسيس نقطة بداية لكل فكر يسعى إلى اليقين، لذلك إذا كان الاستنباط يجد أساسه في الحدس، كونه كما يقول ديكارت “عملية نقصد بها كل ما يستخلص بالضرورة من أشياء أخرى عرفناها معرفة يقينية…” وإذا كان الحدس هو عملية إدراك فوري للفكرة بشكل مباشر كونها واضحة بذاتها، فإن الشك هو ما يعطيها معنى الوضوح كونها تنفلت منه. وبالتالي، يكفي أن نشك، ومن سيصمد أمام شكنا من الأفكار، فهو الحقيقي بسبب بداهته ووضوحه، وبالتالي، يمكن لنا على أساس الأفكار الواضحة في أذهاننا أن نستنبط منها أفكارا أخرى.

  • مجالات الشك عند ديكارت:

من خلال كتابه “التأملات” نجد أن ديكارت حاول تطبيق شكه المنهجي على كل المعارف التي يعتقد بها سواء تعلق الأمر بالمعرفة الناتجة عن الحواس، أو بالجسد أو بالعالم الخارجي، أو بالمعرفة الناتجة عن الحقائق الرياضية في علاقتها بالعقل، أو بالمعرفة الناتجة عن الإيمان بوجود الله. ومن ثمة سيهتدي ديكارت من خلال الشك إلى اليقين، سواء تعلق الأمر بيقين إثبات وجوده كذات مفكرة (الكوجيطو)، أو تعلق الأمر بإثبات وجود الله، أو تعلق الأمر بإثبات العالم الخارجي.

1. الشك في المعرفة الحسية:

يدعو ديكارت في مواضع كثيرة من مؤلفاته إلى التخلص من كل المعارف الناتجة عن الحواس، لأن المعرفة التي نتوصل إليها عن طريق الحواس، على الرغم من عمق جذورها فينا، هي معرفة زائفة حافلة بالأحكام المسبقة التي تتدخل بعد ذلك في كل محاولة علمية للمعرفة. وهذا ما يعبر عنه ديكارت في “مبادئ الفلسفة” بالقول: “اختبارات كثيرة قوضت شيئا فشيئا كل ما لدي من ثقة بالحواس، فقد لاحظت، مرات عديدة، أن الأبراج التي كانت تلوح لي مستديرة، عن بعد، تلوح لي مستديرة عن قرب. وأن التماثيل الضخمة، المقامة على تلك الأبراج، تبدو لي تماثيل صغيرة، إذا نظرت إليها من أسفل. كذلك فيما لا يحصى من المناسبات الأخرى، لقد وجدت خطأ في الأحكام المبنية على الحواس.”

غير أن ديكارت سرعان ما يستثني بعض الأمور التي لا يخطر ببالنا أن نشك فيها، إذ يقول: وإن كانت الحواس تخدعنا، بعض الأحيان، في أشياء صغيرة جدا وبعيدا عن متناولنا، فهناك أشياء كثيرة أخرى لا يعقل أن نشك فيها، وإن كنا نعرفها بطريق الحواس، مثال ذلك، أن ألبس عباءتي الشتوية، فأجلس هنا قرب النار وقد مسكت بين يدي تلك الورقة، وأشياء أخرى من هذا القبيل، كيف أستطيع أن أنكر هاتين اليدين وهما يدي، وذلك الجسم وهو جسمي.” لكنه ما يلبث أن يثير اعتراضا على هذا الذي بدا له أنه يقيني، وذلك بحجتين: الأولى حجة الجنون، والثانية حجة الحلم. فالأولى تقول إن بعض الناس يتصور أن أذنه من فخار، أو يتصور نفسه مصنوعا من زجاج لكن هذا ليس سببا مقنعا للشك، لأن هؤلاء الناس مجانين” وسأكون مجنونا مثلهم لو شبهت حالي بحالهم.”

والحجة الثانية، أي حجة الحلم يقول فيها ديكارت: “كم مرة حلمت أني جالس قرب النار، ههنا، وقد لبست ثيابي، مع أنني في سرير متجرد من كل ثوب. وهكذا لا يبدو لي، في الحلم أني لا أنظر إلى هذه الورقة، بعينين نائمتين، ولا أن هذا الرأس الذي أهز ليس غافيا، وأمد يدي وأشاهدها بعناية وأعلم أن الأمور لا تظهر بهذا التمييز إبان النوم. لكن إذا لم أتذكر أنني خدعت في مناسبات أخرى إبان النوم، فإني حين أفكر في الأمر على نحو أدق، فإني أرى بوضوح بالغ أنه ليس من الممكن أبدا التمييز بين النوم واليقظة بواسطة علامات معينة، إلى درجة أنني أندهش، وهذه الدهشة تكاد تؤكد لي صحة افتراض النوم” (11). أي أن عدم الإمكان بين النوم واليقظة يدعو إلى الشك حتى في الأمور المدركة بالحس، والتي ضرب عنها أمثلة من قبيل: كونه جالسا بالقرب من نار المدفأة، ومعه ورقة…إلخ. لكنه لا يلبث أن يشك في هذا الافتراض الذي توصل إليه انطلاقا من حجة الحلم وهي شكه فيما يدركه بالحواس من كونه يمتلك جسدا ذا يدين ورأس…إلخ، إذ يقول: “لو افترضنا أننا نائمون، وأن هذه الأمور الجزئية ليست صحيحة وأن نفتح أعيننا، ونحرك رأسنا ونمد أيدينا، بل وحتى أننا لا نملك هاتين اليدين، ولا هذا البدن كله، فإنه يجب مع ذلك أن نقر على الأقل بأن الأشياء المشاهدة في النوم إنما تشبه نوعا من الصورة المرسومة التي لا يمكن تشكيلها إلا بالتشابه مع أشياء حقيقية واقعية، وتبعا لذلك، فإن هذه الأشياء العامة: العينان، الرأس، اليدان وكل البدن ليست أشياء خيالية بل هي أشياء موجودة حقا.”

2. الشك في الحقائق الرياضية:

إذا كان الشك يطال المعرفة الناتجة عن الحواس خاصة ما تعلق منها بمعرفة الإنسان بكونه يمتلك جسدا ذا رأس ويدين…إلخ، فإن الحقائق الرياضية قد تنفلت من هذا الشك، كونها تتضمن حقائق يقينية، “فسواء كنت يقظا، أو نائما، فإن اثنين وثلاثة إذا جمعت معا كونت خمسا، والمربع لن يكون له غير أربعة أضلاع، ولا يبدو من الممكن أن حقائق بهذا الوضوح والظهور يمكن أن تتسم بالبطلان وعدم اليقين.”

ويتابع ديكارت الشك في الحقائق الرياضية نفسها رغم ما تتمتع به من يقين، فيورد حجتين: الأولى، حجة إله يجعلنا نعتقد خطأ بعكس ما هو صحيح. والثانية، حجة شيطان ماكر مخادع يضللنا عن طريق اليقين. أما الحجة الأولى فيقول فيها: “ومع ذلك فإن في عقلي منذ مدة بعيدة فكرة تقرر أنه يوجد إله قادر على كل شيء وهو الذي منحني وخلقني على الحال التي أنا عليها. فمن يدريني أنه لم يجعل، لا توجد أي أرض ولا أي سماء ولا أي جسم ممتد ولا أي شكل ولا أي مقدار ولا أي مكان، ومع ذلك، فإن لدي الشعور بكل هذه الأشياء وأن هذا كله لا يوجد على نحو آخر مختلف عما أشاهده عليه؟ وأيضا فإنني لما كنت أحكم أحيانا بأن الآخرين يخطئون في الأمور التي يحسبون أنهم أعلم الناس بها، فمن يدريني لعل الله قد جعلني أخطئ في كل مرة أجمع فيها اثنين وثلاثة، أو أعد أضلاع المربع، أو أحكم على أي شيء آخر أسهل، إذا كان من الممكن تصور شيء أسهل من هذا؟ ولكن ربما لم يشأ الله أن انخدع على هذا النحو، لأنه يوصف بأنه خير تام. ومع ذلك فإنه إذا كان مما يتنافى مع كونه خيرا أن أخطئ دائما، فإنه يبدو كذلك أنه مما لا يناسبه أن يأذن بأن أخطئ في بعض الأحيان، وبالرغم من ذلك فإنني لا أملك أن أشك في أنه لا يسمح بذلك.”

في حين، أن الحجة الثانية، يورد فيها القول التالي: “وحتى لو سلمنا بأن حرية الله تمنعه من أن يجعلنا نخطئ وننخدع، فمن يدرينا لعل شيطانا خبيثا وماكرا وخداعا بقدر ما هو قوي، قد استخدم كل مهاراته في خداعنا، فإني حينئذ سأعتقد أن السماء والهواء والأرض، والألوان والأشكال والأصوات وسائر الأشياء الخارجية ليست كلها إلا أوهاما أو أحلاما استخدمها لكي يقنعني، وسأعتبر نفسي أنني بدون يدين ولا عينين ولا لحم ولا دم، ولا أملك أية حواس، وأنني أتوهم توهما أنني أملك كل هذه الأشياء” (15). لكن ديكارت يعترض على هذه الحجة أيضا بالقول: “ليس من شك أنني موجود، إذا أضلني، فليضلني ما يشاء، إنه عاجز، أبدا، عن أن يجعلني لا شيء، ما دمت أفكر أنني شيء، من هنا ينبغي أن أخلص…إلى هذه القضية (أنا كائن، أنا موجود) هي قضية صحيحة، جبرا، في كل مرة أنطلق بها.” ومعنى ذلك، أن ما يمارسه الشيطان من تضليل وخداع لي أكبر دليل على أنني موجود، ما دام أن وجودي هو ما بعثه على محاولة تضليلي.

من هنا، يتوصل ديكارت إلى عبارته المشهورة “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، وهي العبارة التي يستعرض فيها القول الآتي: أي شيء أنا؟ أنا شيء مفكر. وما هو الشيء المفكر؟ إنه شيء يشك، ويفهم، ويتصور، ويثبت، وينفي، ويريد ويتخيل ويحس أيضا. حقا إنه ليس بالأمر اليسير أن تكون هذه كلها من خصائص طبيعتي، ولكن لما تكون من خصائصها؟ ألست أنا ذلك الشخص نفسه الذي يشك الآن في كل شيء على التقريب، وهو مع ذلك يفهم بعض الأشياء ويتصورها، ويؤكد أنها وحدها صحيحة، وينكر سائر ما عداها…فهل هنالك من ذلك كله شيء لا يعادل في صحته اليقين بأني موجود، حتى لو كنت نائما وكان من منحني الوجود يبذل كل ما في وسعه من مهارة لإضلالي؟ وهل هنالك أيضا صفة من هذه الصفات يمكن تمييزها عن فكري أو يمكن القول بأنها منفصلة عني؟ فبديهي كل البداهة أنني أنا الذي أشك، وأنا الذي أفهم وأنا الذي أرغب، ولا حاجة إلى شيء لزيادة الإيضاح.” ويربط ديكارت بين الفكر والوجود، معتبرا أن الأول علامة على الثاني، أو أن الثاني لازم بالضرورة عن الأول. يقول ديكارت: “…هنا أجد أن الفكر صفة تخصني، هي وحدها لصيقة بي، أنا موجود. هذا أمر ثابت، لكن كم من الوقت؟ ما دمت أفكر. متى انقطعت عن التفكير تماما، انقطعت عن الوجود بتاتا.”

على سبيل الختم، هكذا، قاد الشك المنهجي عند ديكارت إلى اليقين، وهو يقين إثبات ذاته باعتباره موجودا ما دام يفكر. وهو يقين الكوجيطو “أنا أشك، أنا أفكر. أنا أفكر، أنا موجود-Dubito ergo Cogito. Cogito ergo Sum”، فالإنسان يشك، وما دام يشك، فإن الشك فعل من أفعال التفكير، وما دام كذلك، فإنه يفكر، وما دام جوهر النفس هو الفكر، ومادام الفكر صفة لصيقة بها، فإنه موجود حتما، ما دام أنه ليس معدوما طالما يفكر. كما أن ذلك ترتب عنه اهتدائه إلى يقين وجود الله، وهو ما يفصل فيه القول في التأمل الثالث، ويقين وجود العالم الخارجي، وهو ما يتعرض له في التأمل السادس.

1xbet casino siteleri bahis siteleri