رسائل غريب -الرسالة الثانية-: غرفة مغلقة!

صديقي الغريب، مرحبا مجددا؛ هذه رسالتي الثانية إليك، فخذ مني ما تشاء وانطلق بشغف.

وأنت في غرفتك المظلمة يا صديقي لن تجد النور، لن ترى جمال الشمس وأنت تحيط نفسك بالظلام، لن ترى النور الذي يشع في الخارج، والنور الذي تخفيه في قلبك. من الضروري جدا أن تلقي عنك لباس الحزن، ثم تتأنق بحبك الصافي، حينها سترى أشياء جميلة تنتظرك، ستلقى حياة للحياة أيها الغريب. وأنت في قوقعتك المحدودة جدا ستظل تعيد نفس الأشياء، تكرر نفس الأفكار كل صباح وتنام بنفس الثقل كل مساء، لأنك يا صديقي لا تحطم أبوابا تسجنك، لأنك لا تخطو أي خطوة نحو الطريق الصحيح.

في أحد القصص القصيرة لغسان كنفاني، اقتبس “لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة.” كانت تجمع غسان كنفاني علاقة وطيدة بابنة أخته لميس، فكانت عادته أن يقرأ لها من قصص التراث والحكايا الشعبية، كما أنه يكتب لها قصصا قصيرة تشعل في قلب الصغيرة نار الحلم. لا أريد أن أطيل الحديث عن تفاصيل قصة غسان كنفاني، ربما نفعل هذا في كتابات قادمة. ما يهمنا الآن، أن الاقتباس أعلاه من قصة بعنوان “القنديل الصغير”.

تحكي القصة عن أميرة توفي والدها الملك فترك لها وصية مفادها؛ “لا بد لك أن تدخلي الشمس إلى القصر وإلا ستعيشين حياتك في صندوق مغلق”. حارت الفتاة فيما ستفعله وكيف يمكن للإنسان أن يحضر الشمس إلى بيته. جربت كل الطرق والأفكار التي طرأت على بالها، حاولت صعود الجبل لكن دون جدوى، وكيف للمرء أن يمسك الشمس بيديه، أليس كذلك يا غريب.

قصاصة صغيرة يلقيها أحدهم تحت باب غرفتها وقد كتب عليها؛ “لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة” -وأنت يا صديقي في غرفتك المظلمة لن لتجد النور، لا بد لك أن تبحث طويلا، أن تغدو شغوفا.-

واصلت الأميرة بحثها وعادت تتسلق الجبال كل يوم، ثم علقت على جدران المدينة بيانا تعلن فيه المكافأة لمن يساعدها في مهمتها المستعصية، عجز الجميع عن مساعدتها فداهمها الحزن مجددا وتحطمت كل آمالها في تحقيق وصية والدها. في الأيام القادمة، سيأتي رجل عجوز يحمل قنديلا صغيرا يطلب من الحرس الدخول لمقابلة الأميرة، لكنه يقابل بالرفض والطرد. “إذا لم يكن بوسع إنسان عجوز أن يدخل قصرها فكيف تطمع أن تدخل الشمس إليه”. يقولها العجوز يائسا ثم يولي مدبرا، حاولت الأميرة أن تناديه لكنه قد اختفى، فطلبت من حراسها أن يبحثوا عنه فلم يجدوه.

قررت الأميرة أن يحضر الحراس كل من يحمل قنديلا صغيرا إلى القصر، وفي الليل ستفاجأ بمنظر مهيب أمام أسوار القصر، آلاف الرجال حاملين لقناديلهم يتقدمون نحو القصر. تزاحم الناس أمام أبواب القصر الصغيرة والمغلقة، لتطلب الأميرة بعدها هدم الأسوار الأمامية ليتسنى للجمع الدخول إلى باحة القصر. يتقدمهم الرجل العجوز الذي يخبر الأميرة بعد أن تساءلت الأخيرة عن العدد الكبير من القناديل؛ “كل واحد منا يحمل قنديله ليعرف طريقه” “الشمس أيضا أكبر من أن يحملها رجل واحد أو امرأة واحدة.”

مقالات مرتبطة

هناك فهمت الأميرة قصد والدها، القناديل المجتمعة هي الشمس، ولما شهدت أشعت الشمس تشرق شيئا فشيئا تعجبت من المنظر الجميل ليجيبها العجوز مجددا؛ “لقد هدمت الأسوار والأبواب، كانت تلك الأسوار هي التي تحجب عنك أشعة الشمس.” وتسلمت الأميرة تاج الملك أخيرا بعد تنفيذ وصية والدها.

لقد كتب غسان كنفاني هذه القصة خاصة للأطفال -مصحوبة ببضع رسومات- أطفال فلسطين وأطفال العالم لعلهم يحملون قناديلهم، لعلهم يحطمون كل الأسوار التي تحيطهم وتمنعهم من التحليق عاليا نحو حلم وشغف، لكني أحكيها لأنها قصة لكل الناس؛ للصغار والكبار، لأننا يا صديقي نحتاج أن نبحث عن الشمس، أن نخرج من غرفنا المغلقة.

أنت ترى جمال الشمس للمرة الأولى حين تحطم أسوارا تسجنك يا صديقي؛ أنت تغدو حرا حين تشعل قنديلك وقنديل صاحبك، نجتمع جميعا فنغدو شمسا. نحن يا غريب لن نصل أهدافنا ولم نحرك ساكنا وقناديلنا مطفأة. لا بد لنا أن نخرج من غرفنا المغلقة؛ من أفكار تسجننا، من عقول مقيدة، ومن قلوب مغلولة.

اكسر أغلالك يا صديقي وتنفس هواء منعشا ثم انطلق نحو حلمك، البكاء والحزن لن يحلا المشاكل كما يقول غسان، النحيب طويلا لن يجعلك بخير أبدا. لكن النور الذي تحمله في قلبك قادر على ذلك، الحب الذي ينتظر منك فتح الغرفة المغلقة ليفوح كالعطر في الأرجاء.

هل تمشي حقا في الطريق الصحيح؟ تساءل كل صباح وأنت تفتح عينيك، تساءل كل ليلة وأنت تسند رأسك لعلك تنام، تساءل ولا تتوقف حتى تجد إجابتك الصحيحة، إجابتك التي توقظك وتريك الطريق الصحيح، تحسس قلبك كل لحظة، هل نبضك بخير؟ هل أنت بخير؟ هل تجد في قلبك ما يستحق الحياة؟ هل تجد في صدرك ما يستحق المحاربة من أجله؟ هل في فؤادك ما قد يعيدك شغوفا كل يوم؟ وحين تجد إجابتك يا صديقي، تأملها مطولا، تأملها بعمق شديد.

هل حافظت على فطرتك الصافية؟ هل ما زلت تحتفظ بدهشة الأطفال أم أنك قد عدت تتمنى ومضة من صفاء الصغر؟ هل أنت بخير يا غريب؟ هل تريد حقا الخروج من غرفتك المغلقة؟ هل لك حلم ينتظر؟ هل لك شغف سيحييك؟ هل تملك في صدرك حبا للحياة؟ لا بد لك يا صديقي أن تفعل، لا بد لك أن تحطم أسوار سجنك، وأبوابا تجعلك أسيرا. لا بد لك أن تقاوم خوفك، يأسك وكل السواد الذي يحيطك، لا بد لك أن تفتح الباب لأشعة شمس الحب والأمل، لا بد لك أن تنطلق الآن!

اهدم أسوارك يا صديقي وتحرر من مخاوفك، وإلا ستبقى في صندوق مغلق، ستبقى في ظلام فوقه ظلمات. دمت باحثا عن الشمس يا غريب، نلتقي في رسالة قادمة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri