حنظلة

تهاويت على كرسي عجوز ساحبة أذيال الخيبة مجددا، ظللت أتمسح بجدار ذاكرتي علها ترأف بي وتجود علي ببضع أحرف ألامسها وحفنة كلمات أمتزج بها حتى الاحتراق. لكن الجدار كان أملسا رخوا يستهزئ مني بتشكلاته الهلامية، كل النتوءات انمحت وكل العبارات تلاشت مخلفة خلفها مجزرة أدبية.

سمعت طرقات على باب غرفتي أطلقتني من عقال عسر الكتابة، ”كقارب قديم يتعفن على شاطئ مهجور” انبثقت هاته الكلمات من بين شفتي أمي بعد أن أطلت بوجهها الذي علته تعابير يأس مختلط بشفقة، استطردت قائلة: “كفاك يا بنيتي سباحة في المياه العكرة، كفاك عشقا لهذيان الهروب من واقع أغبر بنصوص وفقرات لن تعيد اليابس أخضر”، لم أنبس ببنت شفة وظللت مطأطأة الرأس، في انتظار انتهاء هذا الخطاب الاعتيادي، ردت على صمتي: “كعادتك ستعتنقين الصمت وتديرين ظهرك لي كحنظلة الذي تضعين صورته أمامك، هنيئا لك إذا بحياة تتجاذبك فيها أمواج الحيرة والضياع بينما مرساتك مفقودة.”

لحظتها انسابت تأملاتي متناسلة، كأنني أبحث عن شيء مفقود، أسدل الليل رداءه وأنا ما زلت لم أبرح مكاني ممعنة النظر في صورة حنظلة، فجأة، انتفضت الصورة من مكانها وانفلت حنظلة من الإطار كالشبح، ارتعشت فرائسي لهذا المنظر المفزع وتسمرت في مكاني من شدة الرعب، قلبي ينبض بقوة وقدماي الواهنتان لم تستطيعا حملي، نفضت رأسي عدة مرات لعلي أصحو، لكن الصحوة تأتي بعد الحلم وأنا في تمام يقظتي.

كان وجهه غائما، عندما تحرك موزعا نظراته في كل أرجاء المكان، له جسم طفل لكن رأسه قد غزاه الشيب، تجاوزني متجاهلا ومضى نحو الباب، رماني بابتسامة مشرقة زرعت في قلبي أملا قد قضى نحبه منذ زمن بعيد، وأقفل الباب خلفه.

انتفضت وأنا أصرخ: “حنظلة يا أمي الذي ظل عاقدا يديه خلفه ومولينا ظهره قد استدار اليوم والتفت، حنظلة عاد ليفك حبل المشنقة عن رقبة صاحب القصيد والقصيدة، عاد ليبعث العنقاء من تحت رمادها كي تنفخ في كيرنا نارا، عاد ليغسل عن مفاتيح العودة عفن الصدأ، عاد ليلقن العالم حساب الجبر بعد أن كنا نضرب للخطوة ألف حساب، عاد لينفض عنا غبار لعنة البترول، عاد ليعيد فينا ذرة الكرامة التي داسها فجور الكراسي، عاد بجيل يفهم حكاية الأسد والثيران الثلاثة بدل جيل جف ريقه وخفت بريقه.”

الشارع في ثوب حداد خانق، وهو يمر بين الأجساد يحمل قلم حبر أحمر دون أن يعيره أحد اهتمامه، أسقف المباني تحتشد عليها الأعين، تترقب من يحاولون فك الأغلال عن أصواتهم لتقتنص أفواههم فتشنق الحرية وتعلق في ساحة المدينة للعبرة، يغادر الشيخ المسجد مصحوبا بوقاره، وفي الرصيف الآخر تغادر الصبية الملهى تختال في لباسها، ليلتقيا في المنتصف، تقلهما سيارة الأجرة فتتفكك أوزان المبادئ وتختل القيم، في الزنازن يلسع السوط أوردة الأجساد وتفر اللحوم من شدة الخوف، الحمام يتم وأده تحت الثرى والخفافيش تسكن القصور، تلم الثروات ليلا وتتوشح بربطات العنق صباحا، الموت يزحف كشبح رمادي يفتك بالأجساد ويقتلع الأرواح وفي المقبرة الكبيرة، الموتى يسخرون من الأحياء، البشر يدوس البشر وكل شيء يطلب النجاة، اعتلى حنظلة منصة الموت ليصدر صرخة انتفاضة، سبق صوت طلق ناري صدى حنجرته، استقرت اللعنة على جبينه، نزف حبرا أسودا وانكسر القلم الأحمر، سروليك يحمل السلاح والعم سام يحشوه بالرصاص، الحشد يأخذ صورا والشيخ يقول: “ما لنا غير الدعاء.”

قفل حنظلة عائدا، دخل بوجه تعتليه ملامح اليأس والشفقة، سلم بقية حلمه، عاد إلى الصورة واستدار كما كان. استيقظت من حلمي ونظرت إلى الصورة، تناولت القلم وكتبت: حنظلة!

1xbet casino siteleri bahis siteleri