الحاجة إلى ثقافة البدائل

658

كل إنسان يمشي في هذه الحياة وفق طريقين، طريق مكتوب ومقدر له قبل ولادته، وآخر يختاره ويسعى فيه بجده واجتهاده. وهذان الطريقان مختلفان، فقد يكون الطريق المقدر مواتياً يسهل عليه حياته بشكل كبير، وقد يكون عكس ذلك معرقلاً ومثبطاً يخلق له تحديات في عيشه. أما الطريق الثاني، فكل إنسان -بغض النظر- عن المكتوب عليه يشق مساره فيه من خلال بذل الجهد للحصول على رزقه في هذه الحياة من علم وعمل وما إلى ذلك من قوام الحياة.

والعلاقة بين الطريق المقدر والطريق المختار علاقة تأثير وتأثر، فبديهي جداً أن من وُلِدَ في بيئة محترمة سيحظى بمسار محترم في تربيته وتمدرسه وعمله، والعكس يقع عندما تكون البيئة المقدرة غير مؤهلة أو تعاني من ضعف مادي أو معنوي. إلا أن الله تعالى وهب للإنسان الإرادة الحرة وربطها بالتكليف، فرغم ما يجده المرء من ظروف قد تكون قاسية في حقه، فإنه يمتلك القدرة على التغيير والتبديل من خلال مجهوداته وكفاحه في هذه الدنيا القاصرة، وذلك مصداقاً لقول البارئ في محكم التنزيل: {‏وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى‏}‏ [النجم: 39].

لذلك نجد نماذج كثيرة في العالم لم تستلم لقدرها المحتوم الذي لم يكن لها أي حظ فيه، بل سعت إلى قلبه رأساً على عقب، وبهذا خرجت من ضيق الآفق إلى سعة البدائل. وهذا يدفعنا لكي نتحدث قليلاً عن ثقافة البديل، ولماذا ينبغي على كل واحد منا أن يُعد بدائل في حياته يمكنها أن تفتح له أبواباً أخرى للحياة الكريمة والقويمة.

في البداية علينا أن نعلم أن ثقافة البدائل سنة قرآنية قبل كل شيء، قال الله سبحانه: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) استبدال الفاسد بالصالح، والضار بالنافع، والسقيم بالقويم، والسيئات بالحسنات والخبيث بالطيب. والاستبدال واقعٌ في جميع مناحي الحياة، فمثلاً صاحب السيارة يستبدل زيت سيارته بشكل دوري بسبب فساده وعدم صلاحيته للمحرك، كما أن الإنسان يستبدل ثيابه إذا أصبحت بالية ورثة ولم تعد تحقق المقصود منها، وقد يستبدل المرء هاتفه أو حاسوبه عندما يطاله عطب يذهب بمكوناته الأساسية، وهكذا في سائر الأمور الحياتية.

وهذا يرجع بشكل أساس إلى كون طبيعة الحياة خاضعة لمبدأ التغير والنسبية، فهي لا تثبت على حال، ولا نمتلك فيها ضمانات مطلقة صالحة للأبد، وهذا الذي يدفعنا دفعاً إلى تنمية ما أسميه “ثقافة البدائل”.

ثقافة البديل قد تبدأ بأصغر الأشياء وهي الأمور المادية، وصولا إلى العلاقات الاجتماعية الإنسانية، فقد يكون ذلك الصديق الوفي بالأمس خائنا اليوم، فيقوم الإنسان بعملية الاستبدال لعدم جدوى علاقة مثل هذه،

مقالات مرتبطة

وهنا يصح قول الشافعي رحمه الله:
“ففي الناس أبدال وفي الترك راحة.”

لكن، ما يهمني هنا بشكل أساسي هو أن نستحضر ثقافة البدائل ما أمكن عندما نخطط لحياتنا الشخصية والمهنية، عندما نكون رؤيتنا في هذه الحياة، وبالأخص عندما نبدأ في شق مشوارنا القصير على هذا الكوكب الصغير. إن بناء ثقافة البدائل مسألة ليست بالهينة، لأن النفس تألف النمطية ومنطقة الراحة والبقاء على نفس الحال لمدة طويلة جداً، لذلك عندما نبحث عن البدائل فإننا نزعج هذه النفس ونسير في الاتجاه المعاكس لرغبتها.

والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا، لماذا ثقافة البدائل؟ وما أهمية ترسيخها في فكرنا؟ لأن ما تجود به الحياة من حوادث ونوازل غير متوقع، وخير دليل ما خلفته الجائحة من آثار مدمرة نفسياً واقتصاديا واجتماعياً على هذا الإنسان الضعيف. ولأن الحياة لا تعطي ضمانات مطلقة مثل التأمين على الأجهزة الإلكترونية، ولنا مثال في العديد من الأيديولوجيات التي أحدثت زخماً ورجة في وقتها، لكنها لم تستمر لأكثر من قرن. كما أن الأمور قد تنقلب إلى أضدادها، فما كان صالحاً البارحة قد لا نجد له فائدة تذكر في يومنا هذا، فقد يمسي المرء مؤمنا ويصبح كافراً، أو يبيت فقيرا ويستفيق غنياً.

ترتكز ثقافة البديل على إيماننا العميق بقاعدة الوفرة؛ التي تقول إن الكون يسير وفق الوفرة لا الندرة، فالله سبحانه من أسمائه الغني وهو المدبر الحكيم لعيش البشر فوق الأرض، وقد وضع ما يكفي من الموارد على هذه البسيطة تكفي لتسد حاجات الناس.

عندما أعي ذلك، تصبح نظرتي للأمور كاملة، ولا أكون اختزالياً في فكري واختياراتي في الحياة، والمقصود بهذا أن على المرء أن يجد دائما بدائل في حياته سواء كان الطريق مفتوحاً أم مغلقاً، بدائل في العلاقات الاجتماعية، بدائل في اختيار التخصص، بدائل في كسب الرزق، بدائل في الأشياء المادية، بدائل في سائر الأمور التي يقع عليها التغير وتخضع للاستبدال. ويأتي هذا من علمنا بأن لا شيء يستقر على حال، بل الطبيعة دائما في حركة التطور والتغير خاصة في عصرنا هذا عصر السرعة والثورات التكنولوجية والصناعية التي قلبت مسار البشرية.

وفي الختام، أذكر القارئ الكريم بآية من الكتاب العزيز تلخص ما تطرقت له في مقالي هذا، وهي قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}؛ وفيها دلالة عميقة على أن التغيير وخلق البدائل من صنع الإنسان، وبهذا يحيي ذاته ويحققها على مسرح الوجود.

1xbet casino siteleri bahis siteleri