البدايات

هكذا وبدون مقدمات: “احتمال كبير إصابتك بكوفيد-19″، “كل الأعراض التي ذكرتها تؤكد ذلك”… أحسست أني جوفاء في تلك اللحظة ولم أستطع أن أضيف على كلام الطبيبة كلاماً ينفي أو يؤكد ما قالته. “أنا أحملُ في داخلي فيروسا؟”

كشعور أولي، كان الأمر بمثابة صدمة! مع أني لم أتأكد بعدُ آنذاك، إلا أن سؤالا غبيا لازمني لمدة أسبوعين تقريبا: كيف يصيب الفيروس جسم شابة لم تبلغ العشرينات بعد؟ وكأنني كنتُ حالة استثنائية ولم يسبقني إلى ذلك الكثيرون! غير أن سؤالا كهذا لم يلبث أن أُلقِي في مهملات الذاكرة كما ألقي غيره!

لم أستطع في تلك الفترة أن أدون أي شيء، كنتُ أحس بأن ذلك واجبا أدبيا ثقيلا لا أقوى عليه بأي شكل كان، ولم أستطع أن أَخُطَّ هذه الكلمات إلا بعد مرور أكثر من شهر على تجاوزي للحالة المرضية، ربما لأن حالتي تلك قد صادفت حالة من الوحدة “المادية” التي سرعان ما توسع نطاقها حتى شملت معنوياتي كذلك فقد كنت قرابة شهر أقطن وحيدة ولا أرى أسرتي إلا في نهايات الأسبوع، ولطبيعة شخصيتي الاجتماعية التي تفوق انطوائيتي بدرجات فإن ذلك قد أحدث في نفسي أثرا بليغا.

كنت في كل يوم، وأنا أعُد الخطى من الحافلة إلى المنزل، أضع مخططا لما أفعله حتى يأتي موعد صلاة العشاء -ومن تمَّ موعد النوم- حتى أقهر شعوري بالوحدة، وقد ازدادت الأخيرة حدة حتى تكالبت عليَّ مع تفاقم أعراض المرض. ولعل من أصعب هذه الأعراض: صداع الرأس، إنه بمثابة أن تحمل مصنعا في رأسك طوال الوقت، مصنع لا تهدأ حركة العمال والآلات فيه إلا قليلا، وحين تستشعر الأمل في أن الألم زال تعود دورة العمل من جديد، ولا تنتهي حتى تُنهيك. هذا غير ما يصنعه بك الإعياء وفقدان الشهية الذي يحب أن تقاومه رغما عنك حتى تستطيع تناول جرعات الدواء.

في البداية -وكما هي عادة المرضى دائما- لم أكن أدري إن كانت تلك الجرعات التي وصفها الطبيب دواءً أم سماًّ؟ إذ كان من الصعب جدا أن أستسيغ مذاقها أو أعتاد تجرعها في أوقات منتظمة لأنها تذكرني في كل لحظة بفكرة أني أعاني من نقص، من مرض، من عجز جسدي. وقد بدأ ذلك منذ اللحظة التي استلمت فيها كيس الأدوية من الصيدلاني، فاستشعرت حينها أني اشتريت صيدلية بأكملها وليس فقط فيتامين سي أو مضادات حيوية، ولم أستطع مقاومة اضطراب مزاجي بعدها. لكن، وأنا أعيد تلك الأحداث الآن، تبين لي أني -وكل مريض بإذن الله- أقوى من فكرة أن يتملكنا العجز أمام دواءٍ أو حتى مرض معين.

بين لحظات ضعفٍ وقوة
أكثر الأوقات صعوبة بالنسبة لي في تلك المرحلة كانت لحظة المواجهة مع الألم / الانفراد به -أما حين أكون بين الأنام فإني أقاومه بصمت-، كنت أحيانا ابكي دون أن أبرر بكائي، وأحيانا أتحدى نفسي وأبحث عن أي متنفس ينسيني حالتي الصحية في ذلك الوقت (كتابة يوميات، رسم…)-، لكن لا أقوى على إتمام أي خطوة من هنا أو هناك فأركن إلى التعب مرة بعد مرة. وأحيانا أخرى لا أجد غير النوم وسيلةً للهزيمة والانتصار في الآن ذاته: انتصار ولو صغير لنفسي على آلامها الجسدية، وهزيمةٌ أمام آهاتها النفسية الأقوى في تلك اللحظة. في مرات كثيرة، كنت أحدث نفسي أنني يجب أن أكون أقوى نظرا لطبيعة الفترة التي أمر بها (عامي الجامعي الأول)، وكثيرا ما كنت أصف تعبي بأنه دلال أو كسل لا غير وأني لم أعد طفلة تشكو من أدنى آلامها لأبويها. كل هذه الأحاديث كانت تدور بيني وبين نفسي وما كنت أجد منها مفرّاً.

التداوي بالأصدقاء
من الأشياء التي تروح على النفس وقت المرض؛ حديث الأصدقاء، أينما كانوا من قريب أو بعيد، يبقى للطبطبة التي تأتيك منهم لمسة خاصة، فرجاء لا تبخل على صديقٍ بكلماتك المواسية، ولو على سبيل المساندة المعنوية، لأنك لا تعلم حقيقة أثرها.

لا تيأسوا من روح الله
من السهل على كل نفس أن تستسلم لأي مشكلة مهما كان نوعها، وتجعلها غِلاًّ يطوق عنقها فتصبح بذلك دليلا على خضوعها، كما أنه من السهل أن تبادر بمحاربة وسائل التشاؤم التي يغدق بها عليها جانب النفس الشيطاني.
في حالتي، كانت صورة واحدة تعلق بذهني كلما بادرتني نفسي إلى الخنوع للتعب والمرض؛ هي صورة اجتماعية بصغار العائلة وأنا على شفاء تام بإذن الله؛ نظرا لطفولية نفسي وأنها تميل للهو مع الصغار أكثر من أي شخص آخر، فأنت كذلك بإمكانك أن تضع نصب عينيك صورةً لأشخاص أو أمكنة أو أهداف شخصية…توقظ بها تفاؤلك من ذلك الخمول الذي يحيط به، وتَدْرأ بها خبث نفسك المتشائمة في تلك اللحظات الحاسمة بينك وبين المرض.

نظرة من زاوية مختلفة
أن يحمل المرء في داخله فيروسا، وهو يعرف ذلك، فبالتأكيد سيتخذ إجراءاته الوقائية. ولكن، ماذا لو حمل فيروسا غير الفيروسات التي يمكن معالجتها طبيا؟ أن يحمل في داخله حقدا، حسدا، كرها أو بغضاء أو أي من أمراض القلوب، فذلك أقسى من الحالة الأولى! بكل بساطة وتعقيد، لأن هذا الفيروس يصبح ملازماً لك، متحكما في أفكارك وأفعالك وتوجهاتك، ولا تدري فعلا أنك خاضع له، عكس الحالة الأولى: حيث تشخص إصابتك وتسعى لأن تحمي نفسك وغيرك منه. فلنجعلها مباردةً لإصلاح قلوبنا مما قد يعتريها من أمراض، موازاةً مع إصلاح أمراض الجسد.

هي تجربة إنسانية قبل كل شيء
ختاماً، أن تحكي تجربتك الشخصية معناه أن تشارك الآخر قطعة من ذاتك، وجزءا مما مررت به على سبيل المشاركة، وعلى سبيل العبرة، أكثر مما هي فضفضة وترويح عن النفس. لذا، رجاء احترام كل تجربة على اعتبار أنها ممثلة لصاحبها، وفي احترامها احترامُه. هي تجربة فردٍ من هذه البسيطة، بالأمس مرَّ بها هو، واليوم أو غدا قد يكون دورك أنت!

1xbet casino siteleri bahis siteleri