“إن ما نستطيع أو ما لا نستطيع فعله، وما نظنه مستحيلا أو غير مستحيل، نادرا ما يكون مهمة قدرتنا الحقيقية، إنها على الأرجح مهمة إيماننا بأنفسنا”. تأملت هذه المقولة لصاحبها ألبرت كامو في محاولة لفهم مغزاها لأجدني أستحضر قصصا لأشخاص لطالما تساءلت عن سر تلك القوة التي جعلتهم يبدعون ويتألقون ويسهمون في بناء الحضارة الإنسانية رغم إعاقتهم الجسدية، بل ويتفوقون على غيرهم من الأصحاء.
هيلن كيلر؛ بعد أن أقنع الأطباء والديها، وهي لا تزال في مهدها، بأنه لا أمل في أن ترى نورا أو تسمع صوتا أو تنطق كلمة، تنطلق متخبطة في رحلتها الحياتية بروح فضولية تواقة للعلم والمعرفة لتتوجها بإبداعات أدبية خالدة. وها هو ستيفن هوكينغ بعد أن حكم عليه المرض بالسكون والصمت الأبديين يزداد إصرارا وعزيمة ليحرك عالم الفيزياء والفلك من حوله. وها هو طه حسين بعد انطفأ النور في عينيه يؤمن بأن النور الذي يشع في خياله وفكره أقوى من الظلام الذي يسكن بصره. وهذا بتهوفن بعد أن هاجم الصمم أذنيه أبى إلا أن يعلن ثورة الأصوات ويملأ العالم أنغاما لتصير أذنه التي يسمع بها. وهذا نيك فويجيك بعد أن فتح عينيه على جسم غريب وبعد أن عجز عن ملامسة ما حوله بأطرافه ينجح في ملامسة قلوب ملايين من الناس عبر العالم ويزرع الأمل فيهم.
إنها قصص علماء، وأدباء، ومفكرين، ومخترعبن وموسيقيين وغيرهم، لم تكن إعاقتهم باختلافها وتنوعها حاجزا يحول بينهم وبين الإبداع والتميز، فمن كان يظن أن فتاة صماء، عمياء و بكماء كهلين كيلر ستجيد النطق والكتابة، تتعلم أكثر من أربع لغات، تحصل على دكتوراه من هارفارد، وتصبح إحدى أعظم الكاتبات التي عرفها التاريخ، وأن رجلا مصابا بشلل شامل سيتفوق في مجال الفيزياء ويصبح من أشهر علماء الفيزياء النظري والكوني. ومن كان ليتخيل أن طفلا فقيرا، أعمى، سيِؤسس جامعتين، يتقلد مناصب هامة، يحفظ القرآن ويصبح من أبرز أدباء الأدب العربي. وأن شابا أصم سيؤلف أروع سيمفونية في العالم ويشتهر بأعظم موسيقار على مر العصور. ومن كان سيخطر بباله أن طفلا بلا ذراعين ولا رجلين سيتقن الكتابة والعزف على الطبل، يتعلم السباحة ورياضة التنس ويصير المحاضر التحفيزي الأكثر تأثيرا في العالم.
قصص أشخاص تبدو من الوهلة الأولى من نسج الخيال البشري أو من وحي الأساطير اليونانية، كما تجد البعض يقول عنهم معجزة من معجزات السماء وآخرون أعجوبة من عجائب الدنيا، وما هم بهذا ولا ذاك بل هم ببساطة أناس آمنوا بقدراتهم وطاقاتهم، تحدوا إعاقتهم بسلاح العقل والإيمان فانتصروا عليها بالعزم والإصرار.
إنهم حقا نماذج ثرية للروح القوية ورموز حية للإرادة الإنسانية.
تذكرت حال “المعاقين” في بلدي فشعرت بالمرارة تجتاح صدري، آلاف “المعاقين” و “غير المعاقين” لا تكاد الشوارع تسعهم، تجدهم ملاقون هنا وهناك على الأرصفة وعلى قارعة الطريق، أمام أبواب الأسواق والمساجد، في محطات الطرق وعلى متن الحافلات يتوسلون شفقة لا تزيدهم إلا إذلالا وجهلا وألما. مشاهد كلما تذكرتها زاد يقيني بأن فقدان الشخص لحاسة من حواسه أو لجزء من جسمه لا يعتبر أبدا إعاقة، وأما الإعاقة الحقيقية فهي إعاقة الجهل وانغلاق العقل، هي تلك النظرة المحدودة التي تجعل صاحبها يتعامل مع الحياة من منطلق الضعف والعجز والكسل.
أؤمن حقا أنه عندما نتخلص من تلك المعتقدات الخاطئة والسائدة عن الشخص “المعاق” ونغير تلك الصورة النمطية التي تصوره على أنه شخص مسكين، ضعيف، مغلوب على أمره إلى غير ذلك من العبارات التي لا تغير من واقع حاله شيئا، سوى أنها تزيده أوجاعا ثقيلة، وفي أحيان كثيرة، أمراضا نفسية وعقلية أكثر تعقيدا، عندما نعلم أطفالنا حب وتقدير أنفسهم و حب الناس واحترامهم على اختلافهم و أن قيمة الشخص تكمن في عقله و قلبه لا في كمال جسمه، عندما نتخلص من إحساسنا بالشفقة تجاه ذلك الشخص “المعاق” وننظر إليه كانسان بل ونتعامل معه على أنه شخص طبيعي، والأهم من كل هذا عندما نستبدل كلمة “معاق” بكلمة “قادر”، عندها فقط يمكن أن نساعد ذلك الشخص “المعاق” على فهم جزء صغير من حقيقته وينتبه إلى أن الشارع ليس هو مكانه الحقيقي، أما فهمه للجزء الآخر والأكبر من حقيقته فذلك بيده.
ألبرت كامو، كلما استحضرت قولتك تلك فهمت أكثر سر نجاح أمثال هيلن كيلر، طه حسين، نيك فويجيك وغيرهم. الآن فقط أفهم الفرق بينهم وبين ذلك الرجل الضرير القابع هناك على عتبة محل تجاري يئسا من نفسه أو تلك المرأة الواقفة هناك على الرصيف وبجانبها عربة مهترئة تحمل طفلة توقفت في أطرافها الحركة، طامعين في مبلغ زهيد يتصدق به المارة، يغذون ضعفهم بالتسول في حين يجهلون أو ربما يتجاهلون قوة عظيمة مغمورة في أعماقهم. نعم -إنها قوة الإيمان بأنفسهم- تلك القوة التي أنعم الله بها على جميع البشر فكان منهم من أهملها وتغافل عنها ومنهم من استثمرها فارتقى وتألق بها.