سماءٌ، شجرٌ.. وأنا!

بليلٍ متعبٍ ساكن، ممتدة على سريرٍ يحاول ابتلاعي، إذ يرميني بأكوام من الأغطية علّه يمنحني رطل دفء.. قاومتُ قوّته الهزيلة لتقابلني “أنا” بالمرآة، رمقتها بنظري فوجدت مجرد وجه أسمر وعينان ملتهبين.. ارتديت كل قطعة زهرية اللون من ملابسي عازمة على الخروج، يُقال إنّ هذا اللون يبعث الدفء والحب، ليته يمنحني القليل فقد بُتُّ مجرّدةً من هذا الشعور..

ما إن وضعتُ قدماي خارجا حتى احتضنتني الطبيعة بنسيمها العليل، امتلأت رئتاي بذاك الهواء حتى صعُب تفريغها، أخذت أمشي وأسمع قرمشة الحصى المبتل من تحتي، مشيتُ طويلًا أتأمل ذاك الصمت الناعم يطبطب على أذناي اللتان اعتادتا الصخب حتى نسيَتا طعم الصمت وحلاوته، صمتٌ طويلٌ ثمّ.. “تِك”… “تِكْ”… “تِكْ”.. صوتُ الغيث يدق فوق معطفي الجاف الخشن، ينزلق رويدا رويدا فيُبلل جلدي المهترئ يرويه، وتصحب تلك القطرات أيدي الريح الناعم تلامس وجهي محاولةً مسح ما خلّفه المطر..
وقفتُ في منتصف الطريق أستمتع بموسيقى الطبيعة، لتُحيط بي سيقان الشجر من كل جانب تحاول تظليلي بأغصانها كثيفة الشعر، وقفتُ أنافسِها في طولها وأرى أيُّنا أجمل وأيُّنا ينافس القمر في حسنه، هاته طويلة وشعرها مُجعّد تلامس السواد في السماء فلا أعلم إن كانت طويلة بهذا القدر أم أنها لا زالت مستمرة وتضع نصب عينيها وجهةً أخرى، وتلك الشجرة في الجهة المقابلة تلامس مصباحا عجوزا تحجب نوره كفتاةٍ متعجرفة تنافس الأخريات لتغطي على جمالهن، تفشل فأرى أشعةً صغيرة تتدافع بين الأغصان لتكشف عن نفسها، أقاطع تنافسهما لأخبرها أن شعرها متفاوت الطول وعليها أن تقصّه من الأمام قليلا، فتأبى، تلك وسيلتها الوحيدة لتحجب عنّا الرؤية وكأن جمال الطبيعة كله يُختزل في لون شعرها الأخضر.. يُقاطع حوارنا من بعيد نُباحٌ يكسر لوحة الصمت الغالية بعنف، وكأنه يحاول حماية ممتلكاته من اللاشيء، فلَا بشر يدنس الأرض ويسترق من جمالها هنا.. غيري أنا!

مقالات مرتبطة

أواصل المسير باحثةً عن منبع الصوت لعلّي أجد كائنا لطيفًا أداعبه، قابلني كلب أسود اللون كهذا الليل، يداه بيضاوتان كأنه البرهان على الفلسفة الطّاوية.. نظر إلي بحدة فواصل نباحه بنبرة غريبة كما لو وجد من كان يبحث عنه في نباحه الاعتباطي..

أكملت المسير بتمعّن، اشتعلت المصابيح فجأة فأخفت الظلام، بدأت تكشف الأرض عن بهائها ودقة تفاصيلها.. كل شيء جميل بهاته القطعة من الأرض، تَدَرُّج لونها الأخضر، جمال ترابها اللامع، صوت ريحها حين يحرّك الأغصان بلطف كخلخال راقصة وصلت للإيقاع الأخير من الرقصة، أشجارها الحبّابة التي تبادلني التحايا بشعرها وتظلّلني مخافة أن أبتل بالمطر، حتى ذاك العشب النابت على أطرافها وتلك الزهرة التي يصفعها كل مارّ بحذائه ولا تزال تحارب حتمية البقاء، ورائحتها المميزة؛ رائحة تراب مبتل، حَطَب وعُشب.. وقفتُ مطولا أحاول جاهدة أن أشتَمّها وأحفظها بمكان ما داخل قنوات أنفي البدين، خفتُ أن أنساها فاحتفظتُ بها بداخلي لعلّي أستحضرها بذاك المكان المكفهر الذي جئتُ منه..

عمّ الصمتُ مجددا وسكَنت الأرض على حالها، قاطَعَت أختي المنظر الجميل بصوتها المذعور باحثةً عنّي، أظهرتُ نفسي من وسط الشجر فعُدنا سويًّا، دخلتُ الغرفة لتقابلني “أنا” مرّة أخرى، أمعنتُ النظر لأجدها بوجنتين موردتين وبريق فرحٍ يقفز من عينيها، لمستُها، ساقعٌ ملمسُها لكنّها تُخرج بخارًا مع كل ابتسامة، دافئةً من الداخل كانت، سعدتُ لرؤيتها كذلك، فذهبتُ طواعية للسرير يبتلعنيُ، بإرادتي أنا لا بقوّته. أغمضتُ عيناي، بلّلتني جفوني بما حملته من ماءٍ، ابتسمتُ، فسمِعتُ صوتًا يناديني من جديد، ” لطيفة استيقظي، إنها الثامنة صباحًا”.

1xbet casino siteleri bahis siteleri