دوامة التاريخ المفقود!

698

“وفي النهاية سينتجون سلسلة من الأجيال ستعبر من الولادة إلى الموت دون أن تترك أثرا في تاريخ الإنسانية!”برتراند راسل. قد تتساءل الآن أيهم كان يقصد راسل بكلماته هذه وما الدافع يا ترى، أو بطريقة أخرى ما قد تكون علاقة كلماته هذه بما قد يأتي عليك بباقي المقال؟

لنفترض أنك نمت ذات يوم واستيقظت من دون ذاكرة الماضي؛ اختفت ذاكرة التاريخ فجأة وكل ما تدركه أنك على هذه الأرض لا تعلم من أنت ولا لأي حضارة تنتمي ولا تاريخها!

وضعت الآن أمام وضعية صعبة قد تبدو لك خيالية أو فكرة مجنونة لكنها الواقع المحض، العالم الآن يسعى إلى توفير حاضر أكثر رفاهية وأكثر تطورا…مما يصب الاهتمامات والكفاءات البشرية على مجال التكنولوجيا والرقمنة الحديثة، كما قد أخذت بعض الظواهر التي جاءت مصاحبة للثورة التكنولوجية العارمة بالتجذر في المجتمعات المعاصرة بمفهومها الشامل كالفردانية والتمحور حول الذات وتمجيد الأنا؛ ملغية بذلك “الآخر” الذي كان قبل عقود قليلة أقرب من أي وقت مضى إلى الأنا التعجرف، والأمر راجع بالأساس إلى الوعي الجماعي الذي تصنعه “الظروف”.

الظروف إذن هي المسؤولة عن تشكيل ما قد أسميه ب “اتحاد الوعي الجماعي”. كيف ذلك؟ إن كنت بحاجة إلى الطعام وهو بحاجة إلى الطعام وهي بحاجة إلى الطعام فسنشكل فكرة موحدة: نحن بحاجة إلى الطعام. كذلك الأمر بالنسبة للإنسان المسكين الذي أكل قضمة رغيف وانسحب من الدائرة: أنا أحس بالشبع الآن، لم قد أتطلع إلى المزيد؟ أنا الآن أتطلع إلى حاضر أفضل فلم قد أعود إلى الماضي البئيس؟

إن دوامة التاريخ المفقود حسب رأينا هي نوع من أنواع الأفكار الجماعية الموحدة. وعلى الجانب الموازي هناك الكثير ممن قد أجمعوا على بؤس الماضي وأمل المستقبل. أجمع مجموعة من المؤرخين على فكرة واحدة “لا خير في أمة تمجد ماضيها أكثر من حاضرها” هذا صحيح! لا مجال إلى المضي قدما إن كنت حبيس الخطوة الماضية.
لكن السؤال الأجدر بالطرح اليوم ونحن ما نحن عليه: هل التاريخ عبء ثقيل نحن بحاجة اضطرارية إلى أن نرميه بعيدا؟ وهل فعلا نستطيع تطوير هذه المجالات بعيدا عن ذاكرة التاريخ؟

لنعد قليلا إلى الوراء ونتحرى الإجابة: لكي تطور مصباحا يضاء أوتوماتيكيا يجب أن تعرف أولا كيف ركب توماس إيديسون أول مصباح، ولكي تصقل مهارات فئة مجتمعية معينة يجب أن تعود ولا بد إلى دراسة مقوماتها وأسسها التاريخية! إذن لا تطور من دون العودة إلى نقطة الأصل؛ نستطيع التوصل الآن إلى أن حل القطيعة مع التاريخ غير مجد فماذا عن العودة إليه، هل تنفع يا ترى؟ لنتخذ من الإنسان الأوروبي- “المنفتح والمتطور برأي شعوب العالم الثالث” – مثالا حيا: كيف خرج الإنسان الأوروبي من دياجير عصر الظلام والطاعون والمجاعة إلى عصر التفتح والأنوار والرخاء؟ وهل يعتبر هذا الأخير استثناء أم أن ناموس الطبيعة يطبق القاعدة على الجميع؟

نحاول -نحن بنو البشر- بالفطرة الانعتاق من الماضي وأحداثه تحت عنوان “انس لتعش” تغلغلت هذه العبارة في العقلية العربية خاصة وجعلتها تصدق كذبة نسيان الماضي لعيش حاضر أفضل، حاضر مبتور المعنى منسلخ الهوية، جامد وخال من كلمة “كان” حاضر يجعلك تصدق أنك كائن من دون ماض، كائن يرى حاضرا مشوشا فأنى له أن يصنع مستقبلا واضحا؟ كائن ولد على أساس ألا يلتفت إلى الماضي وليعيش حاضره المبتور فقط، كان هذا استطرادا قصيرا مع الإنسان العربي المشوش.

لنعد إلى وضعيتنا السابقة ولنربطها بكل ما استنتجناه: في عصر الأنوار مهد ثورة أوروبا، انتشر ما يدعى بالحركة الإنسية، ومحورها إحياء التراث القديم وتمجيد الإنسان، تزعمها مفكرون أبرزهم إرازم وفولتير وتبعهم فيما بعد جاك روسو وهكذا دواليك..هذه الحركة بالذات أجد أنها المحرك الفعلي لظهور عصر الأنوار وما رافقه من تحولات راديكالية، والمدقق في ماهيتها يجد أنها ضمنيا تهدف إلى زرع في ذلك الفرد فكرة بأنه ذو قيمة فعلية، كذلك الأمر بالنسبة إلينا فالعودة إلى التاريخ هي بداية حقيقية إلى تحقيق مجتمع ذو قيمة فعلية. إلى هذه النقطة يبدو الأمر واضحا: التاريخ عنصر مهم من عناصر الهوية المعاصرة إلا أنه هناك نقطة مهمة: هل العودة إلى التاريخ كمفهوم تؤدي بالأساس إلى “الانغلاق” والقومية القبلية؟ بالتأكيد لا؛ لعل أنه بمجرد أن يسمع “بالعودة إلى التاريخ” أحدهم سيخطر له بالتأكيد قراءة كتب كثيرة وقديمة عن الشخصيات والحروب وازدهار الحضارات وسقوطها، كلا ليس الأمر كذلك: العودة إليه من كل أبوابه ومداخله أن تأخذ عن كل بقعة وأرض وحضارة وتتعلم عن كل أشكال العلوم والمفكرين والعلماء من دون النظر والالتفات بالأساس إلى دياناتهم وهوياتهم وأصولهم وأعراقهم، خذ عنه كما تأخذ من طبق أرز كل حبة من بلاد وكلها لها الفائدة عينها!

الآن، ما قد تكون أسباب العجز عن هذه الخطوة السهلة؟
من خلال محاولاتي لفهم أسباب هذا العزوف من قبل مختلف الفئات العمرية تبين أن الأمر راجع إلى تبني أفكار ومبادئ من المجتمع ويبدو ذلك جليا في نفور معظم الطلاب من هذه المادة، أفكارا تصنع عقدا نفسية تجعل من ذاك الفرد غير راض عن تاريخه وبالتالي العزوف عنه.

تعالوا نتفق الآن على أن سبب العزوف عن التاريخ هو عبارة عن عقد نفسية مترسخة وهذا سبب بعض مظاهر التخلف الفكري الذي تعاني منه المجتمعات. لنتفق الآن على أن سبيل عيش حاضر أفضل هو فهم لأحداث التاريخ بطريقة أحسن، لنتفق الآن على أن الطريق الأمثل لمستقبل واضح هو تاريخ مفهوم وأن السبيل إلى خلاص العقول هو الخروج من دوامة التاريخ المفقود.

1xbet casino siteleri bahis siteleri