فوضى الأحلام

بين أربعة جدران عالية، كل جدار بلونٍ مختلف متعب للنّظر. أجلس أمام طاولة متسخة بخطوط من الحبر، وفوقها ورقة بيضاء خالية.. يدان ترتجفان وقلب يخفق بشدة، أنتظر من يُسَكِّنُ خوفي ويوقِف ارتجاف يدَيّ.. لا أعلم إن كان هذا امتحانا أو مجرد حصة درس، لم أرَ يوما امتحانا تُقدَّم فيه ورقة بيضاء فقط، أين الأسئلة؟ عمّاذا سأجيب؟

بجانبي فتاة أتَمّت السّاعة منحنية تُغطّي الورقة بيديها وتكتب، بينما أنا لا زلت أتفاوض مع عقلي نطرحُ توقعاتٍ منطقية لما يحدث.. ماذا تكتب؟ هل أُملي عليها الامتحان وحدها؟ أم أنّي في حصة الفلسفة، والأستاذ ثقيل الظل يختبرنا في مواضيع اللاشيء.. ولمَ اثنتان فقط؟ أين باقي الممتحنين؟ أين حراس الامتحان؟ ألهاته الدرجة بات الإنسان أهلاً للثقة؟

بدأ قلبي في ممارسة طقوسه المعتادة مجهزا لنوبةِ هلع تُربكني. “اهدئي، لا بد من وجود حل” أتمتم بصوت خافت. لم تلبِّ مدامِعي نداءَ الهدوء، انسكبت فوق وعاء وجنَتَيَّ المنتفختين غير مباليةٍ برغبتي في قليل من الصمود.. قدّمتُ الورقة فارغة كعادتي حين تخذلني يداي في الكتابة وعقلي في لحظات الإملاء.. عسى أن تكون حصة فلسفةٍ وأُبَرّر الوضع بكوني غير موجودة، فليس كلّ إنسان موجود وليس كل وجود يعني الإنسان. تركتُ الورقة على المكتب وخرجت، ولا زال سؤال أين الحراس يُطرح،
ضوضاء، أصواتٌ من هنا وهناك، لا كلمة تُفهم.. في آخر الممر امرأة يبدو وجهها مألوفا، تنتظرني أنا، واضح هذا من نظراتها، سأُوَبَّخُ الآن لا محالة.. لكن ماذا فعلتُ؟

استمرَرْتُ في الهرولة نحوها، بادرتُ بالحديث قبل أن ألقي التحية “ما الذي يحدث؟ يداي لا تتوقفان عن الارتجاف. لستُ ممن يتَوتّرون في الامتحانات. وأي امتحان هذا الذي تغيب فيه الأسئلة والحُراس؟”
أجابتني بصوت حادٍّ مرتفع، “الامتحان يُقدَّم لمن يستحق، لمن كان هُنا دائما وكان مسؤولا.. أمّا أنتِ فلا مكان لك بين المُمتحنين، ستجلسين هكذا دائما، وحدك هُنا وفي كل مكان”.

لا كلمات أُخْرى تشرحُ ما يحدث، بدأتُ اليوم بامتحان دون أسئلة ثمّ توبيخ وصراخ دون ذنب.. من أين لها أن تعرفني؟ غير مسؤولة أنا؟ متى استطاعت تكوين كلّ هاته الجُمل عن شخص لا تعرفه؟
مشيتُ بين الناس في الممر مشدوهة أبذل جُلّ جهدي لفهم الأحداث التي تتوالى، أتمنى أن تلتقي عيناي أحدًا هنا عَلّني أفهم أو يفهمني أحدهم، لا جدوى من بذل مجهود هنا، الكل يغمض عينيه حينما أقترب منه ويكمل مسيره غير آبه بما أقول أو بوجهي المنتفخ من البكاء، فالإنسان يُصبِح أصَمًّا إذا أصدر حكما واقتنع به.

وقفتُ لحظةً في الخارج أنتظر الأرض لتنطوي وتضمني إليها فتكون هاته نهاية الإنسان وقسوته.. نزعتُ لباسي ودخلتُ في مشهد آخر، أركض دون توقف، أبكي، أخاف، أفكر، أرتجف، أعيش المشاعر كلها.. أمشي في طريق لا نهاية له، دون وجهة ودون نقطة نهاية، أشعر أني في مأزق، تلحقني مشاعري المُخبأة من ورائي ككيس قش وقع من شاحنة النقل وانجرف عن طريقه.. ورقة إجابة بلا امتحان، حكمٌ بلا إنصات، طردٌ بلا رحمة.. وقعتُ أرضا على ركبتيَّ، تألمتُ كثيرا كطفلة صغيرة تتعلم ركوب الدراجة وفقدت سيطرتها على المِقود، لمستُها بيديَّ فاستيقظتُ في بيتٍ هادئ بقدمين مُتعبتين من الركض، نبضاتُ قلبٍ غير منتظمة وعينين مبللتين، بقيت مُتَيبِّسةً مستلقية على ظهري.. ما كان كل هذا؟

القاعة والممر والأرض التي ركضت عليها، هي مجرد سرير الآن! تغير الزمكان، لكن قدماي وقلبي وعيناي.. الأحاسيس ذاتها ترافقني..
قبل ست ساعات، ارتديتُ ملابس النوم، تجهزتُ وألقيتُ برأسي على الوسادة واخترت الجانب الأيمن سندا لباقي جسدي، أغمضتُ عينيّ وتمنيت أن أنعم بنوم هنيء لأريح عقلي الذي استهلكني اليوم بأكمله وابتلع قواي يحلل ويناقش أفكارا لا فائدة منها، ويستعير من ذاكرتي ما أخاف وأخشى تذكره، أسكته صباحا بحلوى دسمة أو بحديث تافه عن علاقة النمل بالسكر، فيأتي الليل لإسكاته بنوم هادئ، أُسِدلُ ستار عينيّ لأرفعه عن خشبة مسرحٍ، حيث تجهزت مشاعري السيئة كلها.. أصفِّقُ ببطء بيدينِ ثقيلتين، وقدم تهتز دون إرادتي كأنها فوق آلة الخياطة.. أبدأ المسرحية جالسة على كراسي الجمهور وأنهيها بجسدٍ تَلَبَّس شخصيات جميع الممثلين، قلبي فوق طاولة مليئةٍ بالخربشات والثقوب، شفتاي تلتصقان بوجوه غريية تُلقي عليّ رصاصًا فتاكًا من الكلمات، وقدماي مربوطتان بعجوزٍ واهنةٍ، وأدمعي لا تزال في يقظتي وحلمي تبكيني وتبكي حالي، تتطاير هنا وهناك تائهة، تصرخ: “استيقظي لا سبيل للنجاة غير رفع الستار”.

أنصتُ لهذا الصوت مرة واثنتان وثلاث، أتأخر لأستوعب اقتراب الخطر، كل حركاتي تتثاقل، أتجهز وأتأهب للمساعدة، أحاول أن أطفئ إنارة المشهد أو أفتح عينيّ عله -الحلم- ينقطع، أصرخ بشدة وتتحرك يداي بشكل مخيف لا أتحكم فيه، تحاولان أن توقظاني أو تحملان أقرب مصدر إضاءة لأنتبه إليهما، لكننا لا نستطيع.. لا يَسمعُ صراخي غير أذنيَّ، لحظات مصيرية أعيشها، إما أن يستجيب أحد للنداء وينقذنا من الخطر، أو سنصارع إلى ما لا نهاية أو ستكون النهاية انقطاع نفسي إلى الأبد.. اشتغل عقلي أخيرا، تذكرنا أنه مجرد حلم ولا زلتُ مستلقية على سريري، أَعْطَى أوامرا لباقي الجسد ليتوقف عن تخيّل الأحداث وعيشها.. فاستيقظتُ!

ها هو ذا الورق الأبيض أمام عينيّ، قاعة الامتحان تتحول لغرفة نوم، وأنا لا زلتُ أنا، آخذ القلم لأكتب؛ ننام لنرتاح، لكن الراحة أحيانا تكون مُتعِبَة، حين نرتدي ملابس النوم ننزعُ كل الأغلفة التي تزينّا بها صباحا، نضع على الوسائد رؤوسا ثقيلة بخيوط متشابكة لتبدأ هي بحياكتها وإخراج الهواجس والمخاوف، تُجسدها في أحلام أصلُها واقع، نعيش الواقع في صفة حلم، فنستيقظ لنواجه حقيقة أن كليهما لا يختلفان.. لحظة النوم أضحت أمرّ من العلقم.

1xbet casino siteleri bahis siteleri