نداء الاستعداد … والوجهة “تايلاند”
في كل تجربة سفر أقوم بها إلى دول بعيدة، كاليابان والصين والهند، ألاحظ أن عدد السياح النصارى من الأوروبيين والأستراليين والأمريكيين أكبر بكثير من السياح الذين ينتمون إلى دول منطقتنا. وقد لفت هذا المعطى انتباهي في أكثر من مرة، مما دفعني إلى محاولة البحث والتفكير في عوامل هذه الظاهرة؛ هل هي مرتبطة بالمقدرة الاقتصادية فقط، أم للأمر جوانب ثقافية واجتماعية خفية؟
الذي يبدو لي أن السبب يرجع إليهما معا. فمن ناحية أولى، لا شك أن الجواب السهل واليسير هو أن مرجع ذلك إلى القدرات الاقتصادية المتفاوتة، وهذا الجواب وإن كان في جزء منه صحيحا، إلا أنه لا يُـغني عن البحث في العوامل الأخرى التي قد تقف وراء هذا الاختلاف. نعم، البعد الاقتصادي لا يمكن إغفاله، وهو الأظهر، فهؤلاء لا ينشغلون كثيرا بالمستقبل وبما سيحدث فيه، بخلافنا نحن، إذ نجعل التفكير في المستقبل هاجسا يوميا لنا تقريبا، حتى صار من أمثالنا الشعبية السائرة “دير علاش ترجع”، وهو أمر مركوز في طباعنا، قلّ أن تجد مَـن يتخلص منه.
وآية ذلك أننا نعيش في دول لا توفر الأمان الاجتماعي الكافي، فلا يسود الشعور بالأمان على المستقبل، إذ في أي وقت يمكن أن تنقلب الأمور رأسا على عقب. ولذلك فإن السفر والاكتشاف والبحث عن إمكانات أخرى للعيش لا يبدو أنه يمثل أولوية بالنسبة للناس في دول منطقتنا، بخلاف المواطنين في دول لديها ضمان اجتماعي قوي، يوفر لمواطنيها شعور الأمان والثقة في المستقبل.
في دولتنا ودول المنطقة عموما، الحوادث الاجتماعية مكلفة للغاية، سواء كانت إيجابية كالأعراس والحفلات العائلية وتعليم الأبناء، أو سلبية كالأمراض والحوادث. وحين تنزل بالمرء مصيبة، أو تواجهه مشكلة ما، فإنه يجد أمامه عقبات كبيرة إذا كان لا يملك القدر الكافي من المال؛ ولذلك صار الناس يحتاطون للمستقبل أكثر من اللازم، حتى من أمّن منهم مستقبله ظاهريا وحسابيا. والكثير من العائلات تتقشف لكي تستطيع تعليم أبنائها في المدارس الخصوصية، لأنها تخاف من المستقبل، ولأنها مقتنعة بأن التعليم العمومي لن يؤهل أبناءها للتنافس على فرص الشغل بكفاءة في المستقبل.
وهذه المخاوف تنعدم في الدول التي ذكرت، حيث التطبيب مجاني، والدراسة في المرحلة الأساسية مجانية كذلك وبجودة عالية، والخدمات الاجتماعية الأساسية متوفرة، فلا يكون هناك مِن داعٍ للقلق أو الخوف من المستقبل؛ لأنه حتى عندما تسوء الأمور، تتكلف الدولة بمصاريف العلاج وغيرها.
هذا التفاوت بيننا وبينهم هو ما يفسر أن الأمور التي من المفترض أنها ليست أكثر من حقوقنا الأساسية تمثل “طموحا”، لنا، نكَدُّ ونتعب لتحقيقها، في حين أن هذه الأمور هي حقوق مكتسبة بالنسبة لمواطني تلك الدول، ولذلك تغدو الأولويات عندهم هو السفر والمغامرات والإقبال على الحياة بكل حيوية.
ومن ناحية ثانية، ـ وهو السبب الثاني ـ، فنظرتنا للأموال كذلك تُعيق استثمارها في أنفسنا وفي تجاربنا الشخصية؛ فحتى أولئك أوتوا منها حظا وفيرا، يفوق حاجاتهم الأساسية، تجد أن استثمارهم لتلك أموالهم يتوجه غالبا إلى أمور مادية، تعود عليهم بنفع مادي ظاهر. وربما يعود الأمر إلى نوع من القصور في التفكير، بحيث إن ما لا تَــجسُّدَ ماديَّ له يظل غير ذي قيمةٍ بالنسبة لنا، أو على الأقل يبدو وكأن الأمور هي كذلك في لاوعينا. ولذلك فالاستثمار في الأمور التي تعود علينا بفائدة معنوية ليس أكثر من تبذير للأموال، وقد نُرجعه إلى سفَهٍ أو مراهقة مالية.
ومن هنا، ليس مفاجئاً أن تُواجَه بالإنكار إذا كنتَ تحثُّ على السفر مثلا، وتدعو الناس إليه، لمن استطاع إليه سبيلا؛ حيث ستجد مَـن يواجهك بالقول بأنه من الأفضل استثمار تلك الأموال التي ستنفقها في السفر في مشروع معين، وكأنه لا يستحضر من معنى الاستثمار إلا الجانب المادي منه.
ولعله من المفارقة أن هذه الأفكار لم تكن هي السائدة لدى أجدادنا وعلمائنا القدامى، فالحث على السفر والرفع من شأنه كان حاضرا في أدبياتهم بشكل كبير، وأبيات الإمام الشافعي، مؤسس المذهب الفقهي المشهور، شهيرة في هذا السياق، وأشعار أخرى كثيرة منسوبة لغيره أيضا.
إن السفر يَـفتح للإنسان إمكانات جديدة في الفهم والوعي ورؤية العالم، ويجعله يُـدرك أن العالم أوسع من وطنه، وخلافا لسخرية برناردشو، فالسفر يجعل الإنسان يدرك أن أعراف قبيلته ليست بقوانين الطبيعة. ولنأخُذ مثالا بسيطا من محيطنا: “إنسان بوجادي”، وصفٌ نطلقه على الإنسان الذي يفتقر إلى قدراتٍ في فهم الأمور والتعامل الجيد مع الوضعيات والمواقف التي تواجهه، وعدم القدرة على التجاوب الإيجابي مع المحيط الذي انتقل إليه، غالبا بسبب أنه لم يغادر بلدتَهُ قط، وفجأة وجد نفسه في محيط جديد، مختلف تماما.
لكن هذا “البوجادي” بعد مرور وقتٍ معين، تجده يتعلم، ويبدأ في التكيف والفهم، ويتخلص من شعور أن الآخرين يحاولون خداعه أو الاحتيال عليه، ويبدأ يتعامل مع الناس بدون عقد نقص؛ لأن المدنية والحضارة تُهذّبانه. ويمكن توسيع هذه التجربة لتشمل دول المعمور، فحين ينتقل الإنسان من بلد إلى بلد، تتفتق قدراته الإدراكية، وتغدو رؤيته للعالم وللناس فيه أكثر نضجا، وأوسع آفاقاً، وأقل شيء أنه سيتخلص من الأحكام المسبقة على الشعوب الأخرى، لأنه سيدرك أن ما يراه في مواقع التواصل الاجتماعي أو على الفضائيات لا يكفي لبناء فكرة أو رأي حول قضية ما في دولة أخرى؛ وهذه فائدة عظيمة تستحق أن يستثمر فيها المرء ما أمكنه ذلك.
وبعد؛
فقد أتيحت لي في هذه الأيام أن أسافر إلى دولة التايلاند، التي لم أكن أعرف عنها سوى أنها مملكة، وأن ملكها أغنى ملوك العالم على الإطلاق، ومشهورة بالسياحة الجنسية، والشواطئ الجميلة، وبالطب الشعبي القائم على التدليك.
سأحاول أن أتعرف على ثقافة هذه الأمة في الوقت الذي سأقضيه هنا، وسأحاول أن أدون حوله بعض الأفكار والخواطر التي سأشاركها معكم، وهي جزء من عمل أدبي وفكري، انخرطتُ فيه منذ مدة، أرجو أن ينضج ويكتمل قريبا.
وهذه التجربة -السفر إلى الخارج- أتت بعد انقطاع طويل بسبب الكوفيد-19، وأرجو أن تكون بداية عودة الأمور إلى مجراها، لأسترجع واحدا من أفضل الهوايات والاهتمامات التي لا أتوانى لحظة في الإقدام عليها كلما سنحت الفرصة، وأحسب أنها تعود عليّ دوما بنفعٍ كبير.
مساؤكم سعيد.