مملكة سيام … بين التأمل والتدوين والأنستغرام!
ربما يكون قرار السفر من بين القرارات الجميلة القليلة التي نتخذها في حياتنا، لاعتبارات عدة ليس هذا محل بسط الكلام، وقد تحدثت عن جوانب من هذه الاعتبارات في مقالات سابقة. لكن ليس السفر وحده هو المهم في هذه العملية، وإنما اختيار الوجهة أيضا، فضلا عن اختيار الرفقة بطبيعة الحال. وبعض التفاصيل أحياناً تحدد قيمة الأشياء، وإن كانت خارجةً عنها. غير أن طبيعة الحياة التي نعيشها لا تَسمح لنا برفاهة التفكير المليّ قبل اتخاذ قراراتنا، ولا تتيح لنا فرصة التريث والمفاضلة بين الخيارات المتاحة.
ولذلك لم يكن مجيئي إلى التايلاند نتيجة تخطيط مسبق، حيث لم تكن لي دراية سابقة بهذه الدولة، باستثناء بعض الأمور العامة التي يعرفها معظم الناس عنها. ومن ذلك أنها دولة رائدة في مجال السياحة، إذ أصادف الحديث عنها من حين لآخر في سياق الحديث عن الأماكن الجميلة التي ينبغي زيارتها. وأنها وجهة سياحية مفضلة لدى عدد كبير من الناس. بالإضافة إلى أنها مملكة تشتهر أكثر بفنون الحرب، وبتعرضها لحادث التسونامي الشهير، زيادة على اشتهار بطب التدليك.
ولأن من الصدف ما يكون أفضل من ألف تخطيط، فقد كان سياق هذا السفر أنني في أحد الأيام، بينما كنتُ منهمكا في عملي، وصلني إعلان من أحد الأصدقاء، يتضمن مجموعة من صناع المحتوى المغاربة، ومعظمهم من أصدقائي، مفاده أنهم يخططون لتنظيم سفر جماعي إلى هذه الدولة. وكان ذلك في أواسط نونبر من العام الماضي (2021)، وقد كنت في أوج الإرهاق بسبب تراكم العمل عليّ، خاصة بعد موجة متحور ديلتا التي عرفها المغرب في فترة ما بين شهر يوليوز وشهر أكتوبر. فوجدتها مناسبة جميلة لتخفيف ضغط العمل والاستجمام وأخذ قسط من الراحة، خاصة بعد مدة من التوقف عن السفر، دامت لسنتين.
ومما شجعني وحمّسني أكثر أن معظم هؤلاء الأصدقاء لم يسبق لي أن قضيت معهم وقتا طويلا، لتوطيد علاقتنا، والتعرف على بعضنا البعض عن قرب معرفةً دقيقة. وبعد التواصل مع المسؤول عن تنظيم الرحلة، والقيام بكل الإجراءات اللازمة للسفر، تفاجأنا بظهور متحور أوميكرون، فأفسد علينا كل شيء، ليتأجل الأمر إلى موعد لاحق. موعد كان يمكن أن يكون شهرين أو ستة أو ربما سنة، فمن يدري. ومن حسن الحظ أن الأمر لم يدم طويلا؛ فقد انتهت أو كادت أن تنتهي هذه المحنة.
وبعد انتهاء موجة أوميكرون ببلادنا، وعودة الحياة تدريجيا إلى مسارها الطبيعي، استطعنا أن نأتي إلى هنا، وإن كان الأمر لم يخلُ من صعوبات، بسبب كثرة الإجراءات الاحترازية من فيروس كورونا، وخاصة فيما يتعلق بتحاليل الكشف عن الفيروس PCR، والتي تكون مزعجة حين تتكرر في وقت قريب. حيث يجب القيام بها بشكل متكرر في فترات وجيزة. وهو ما يثير الانزعاج منها، لدى العديد من الناس.
وبعد تجاوز كل إكراهات السفر، وحطّ الرحال هنا بالديار التايلاندية، ظهرت قضية أخرى كان علي التعامل معها؛ وهي: ما هي الطريقة المثلى لقضاء أيامي هنا؟ هل أنقطع عن كل شيء وأركز على ما أنا فيه؟ أم أنه من الجيد أن أشارك أصدقائي والمتابعين لي هذه التجارب؟ خاصة مع خدمة القصة أو story في مواقع التواصل الاجتماعي، الأنستغرام بوجه خاص. هذه الخدمة التي تسمح لك بنقل تفاصيل أنشطتك اليومية بشكل مباشر، لتشارك كيف عشتَ يوما ما أو تجربة ما تود مشاركتها مع الآخرين. لاسيما وأن هذه الخاصية تجعل الوصول إلى أكثر عدد من الناس سهلا ويسيرا.
صحيح أن هذه المشكلة لم تكن جديدة، إذ غالبا ما تواجهني في السنوات الأخيرة؛ فطبيعي أنني عندما أكون في سفر معين، فإن مدته تكون محددة بعدد معلوم من الأيام، وغالبا ما أحب أن أستثمر هذه المدة كلها على أفضل الوجوه، وبالتالي يكون من الصعب أن أبحث في تاريخ المنطقة والتعرف عليها بوسائط مكتوبة، لمعرفة تاريخ المدن التي أزورها، وسماتها الاجتماعية والثقافية والدينية والأثرية، والأماكن التي يمكنني زيارتها.
وحيث إنني مهتم بتدوين أنشطتي ويومياتي، فإنني أيضا أجدني حيران: هل عليّ أن أكتب وأدون ما يرد علي من خواطر في هذه التجربة، وما أعيشه من تجارب يومية، مما فيه طرافة أو عبرة أو ذكرى، أو أنني ينبغي أن أدع ذلك كله إلى وقت آخر. وأركز على الاستجمام والاستمتاع بوقتي هنا. مع الأخذ بعين الاعتبار أن سبل الراحة ليست كلها واحدة بالنسبة لكل الناس؛ فقد تكون كتابة نص جميل من أجمل سبل الراحة وأرقاها. ولو أن الناس ليسوا جميلا على وزانٍ واحد في ذلك أيضا. فبعض الناس يجد ثقلا في الكتابة وشِدةً، وكأنها مخاض عسير، وبعضهم تندفق الكلمات له وتنساب، وكأنها ماء عذب زلال.
وعلى كل حال، فقد حاولتُ أن أقسم يومي على كل هذه الأنشطة، فأخصص منه جزءا لكل ما ذكر، فأصور أحياناً، وأكتب أحيانا أخرىً، وأنسى العالم والناس أجمعين في أحايين أخرى، لكي أتفرغ لعيش اللحظة، والاستمتاع بكل تفاصيلها، ومن فترة لفترة أقوم ببعض الأبحاث البسيطة للتعرف على المدن والجوانب الثقافية والتاريخية لتلك المدن.
صحيح أن هذا التنقل من حال إلى حال، ومن رغبة إلى رغبة، ومن قناعة إلى أخرى، قد يكون مشتتا، بل هو كذلك قطعا في كثير من الأحيان؛ فإذا كنت تستجمم يخطر لك أنه من الجيد أن تشارك ذلك مع الناس بمقطع صغير على الأنستغرام، وإذا جلست لترتاح يخطر ببالك أنه من المهم أن تدون هذه التجربة، لأن ما دُون أبقى وأكثر مقاومة لعوائد الدهر، وإذا كنت تكتب ربما خطر لك أن في الأمر تضييعا للفرصة على نفسك؛ فالأفضل أن تقضي هذا الوقت في الاستجماع والاستمتاع بمناظر الطبيعة الخلابة، وسيأتي أوان الكتابة بعدُ، وهو لا يأتي أبدا. وقت الكتابة هو الوقت الذي تكتب فيه فعلا، وكل تعويل على وقت سيأتي هو مجرد تضليل للنفس.
وفي هذه الحالة، تعيش ما يسمى في أدبيات اليوغا وتقنيات تقوية التركيز بـ “عقل القرد ـ The Monkey Mind”؛ حيث يصبح عقلك كالقرد تماماً، يقفز من شيء إلى شيء، دون أن يستقر على حال أو قرار. بطبيعة الحال، هي مشكلة مستقلة بذاتها أن تحاول أن تقضي سفرك بأحسن الطرق وعلى أكمل الوجوه وأمثلها، لأنه في النهاية لن تنجح في ذلك؛ الطبيعي أن يكون سفرك من طبيعة الأشياء كلها، يفتقد إلى المثالية والكمال.
ومع مرور الأيام هنا، وقرب العودة إلى الوطن، بدأت أقتنع أن الأهم هو أن أرتاح أكثر، وأن أستمتع بوقتي بأقصى قدر ممكن، وليس إنشاء محتوى معين على حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا كتابة أو تدوين أي شيء عن يومياتي وتجاربي. وذلك ما حاولتُ أن أقوم به، وكان الرهان أن أنجح في ذلك؛ ويبدو أنني قد فشلت فيه بنجاح مبهر: فها أنا ذا أكتب في النهاية! وقد صدق الغزالي حين قال: “إن الفطام عن المألوف صعب”.