المؤذن الأول ونبذ العنصرية والطبقية

الإسلام دين العدل والمساواة، دين الحرية والسلام، سواء فيه الذكر والأنثى، وقد جاء به رسول الله ﷺ من عند الله ليكون دليلا للخلق ومسطرة للحق، فكيف حارب به رسول الله ﷺ العادات الجاهلية الدنيئة؟ وما علاقة المؤذن الأول لرسول الله ﷺ باجتثاث جذور الطبقية والعنصرية من المجتمع؟

لا شك أن العَالَم كان يعيش فوضى عارمة قبل بعثة رسول الله ﷺ، وخاصة في شبه الجزيرة العربية، حيث ساد الجهل واتخذ القوم رؤوسا جُهَّالاً فسادوا القبائل عنوة، وكان المقام العالي لأصحاب النفوذ والقوة، فاجتمع فيهم الخُبْث واستغلوا نفوذهم ليعيثوا في الأرض فسادا، وأكل قويهم ضعيفهم، ولم يَخْلُ بالمقابل مجتمع العرب من أخلاق طيبة حسنة عُرِفوا بها، فكان فيهم الجود والكرم والنخوة العربية والنفس الأبية والغيرة على المحارم، وكان الوفاء بالعهد ميثاقا مقدسا عندهم، ناهيك عن حفظ الأمانة ومقت الخيانة… وهو ما أعطى للعرب المكانة الخاصة بين المجتمعات، لكن المجتمع الجاهلي لم يَسْلَمْ من فِكْرة السيادة والسطوة وتَمَلُّكِ العبيد واستخدامهم واحتقارهم، مما جعلها فكرة أساسية لتكريس مفهوم الطبقية والعنصرية في المجتمع، وكانت أيضا فكرة لتطبيع المجتمع ككل وتخديره بمخدر الطبقية والعنصرية، فكانت بذلك بداية النهاية لحرية “العبيد” وحقهم في العيش كأي إنسان تكفل له إنسانيته العيش حُرّاً طليقا، ذلك أنه لما سادت سياسة ملك العبيد وسلبهم الحرية واتخاذهم خَدَماً تحت سلطة الإكراه والتعذيب؛ وفشا في الناس كثير من الأخلاق المقيتة من ظلم وجور ووأد للبنات واحتقار للمرأة واعتبارها هامشا في الحياة، وغطَّى الظلام النور.

شاء الله تعالى أن يتوهج النور في العالم من جديد، وشاء الله تعالى أن تعود للإنسانية مكانتها، فبعث الله محمدا ﷺ ليخرج الناس من ظلمات الجهل والوهم إلى نور العلم والفهم، بعثه ومعه دين الإسلام ليحيي به العالم بعد أن قتلته قوى الشر والجهل، فجاء ﷺ رحمة مهداة للعالمين، مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وكانت بعثته ﷺ بشارة خير للعالمين جميعا، حيث أرسله الله تعالى داعيا للخلق بالحق إلى عبادة الواحد الأحد وحده لا شريك له، وكان من العسير الاستجابة لدعوته، خاصة وأن المجتمع الجاهلي كان يعرف تنوعا وتعددا في الآلهة، لكن الله إذا أراد شيئا هيأ له أسبابه، فاختار لصحبة النبي ﷺ أصدق الناس لينصروه، وشاء الله تعالى أن تنتشر الدعوة الإسلامية في عقر دار الكفر والوثنية، وذاع صيت الإسلام بعد كثير من اضطهاد معتنقيه، فجاء نصر الله والفتح من عنده، وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجا، وذلك بعد أن علموا بما في الإسلام من قيم وأخلاق ومبادئ يرتكز عليها، خاصة وأن هذه المبادئ والقيم تعالج أمورا مشكلة يعاني منها المجتمع وأفراده، وأي شيء جاء معالجا لقضايا الناس ومهتما بمسائلهم؛ يتلقفه الناس وتميل إليه نفوسهم، بل بالأحرى جاء به رجل لم يُعْرف عنه كذب ولا زور ولا بهتان، وكان يلقب بالصادق الأمين قبل بعثته، مما أسهم بشكل كبير في تصديقه واتباعه.

ومن القيم التي جاء بها رسول الله ﷺ في دعوته؛ ضمان كرامة الإنسان، مصداقا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، فجعل ﷺ من هذه القيمة أصلا للحرية والكرامة، وَدَعَا إلى الإسلام دون أن يُكره أحدا على اعتناقه؛ إذ الإكراه على الشيء مُناف للحرية في اختياره، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ } [البقرة: 256]، وجعل ﷺ من كرامة الإنسان أصلا للمساواة ونبذ الطبقية والعنصرية داخل المجتمع، ليكون الناس سواسية لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ} [الحجرات: 13] وهو بهذا قد وضع يده على الجرح الدامي الذي يؤلم طبقة كبيرة من المجتمع آنذاك؛ إذ “العبيد” كانوا مضطهدين لا يصلحون إلا للخدمة وحمل الأثقال والشقاء، في مشهد تجرد من الإنسانية وجاوزها إلى المعاملة البهيمية، التي نخرت قوى هذه الطبقة من المجتمع، وأرغمتها على الطاعة والانحناء دون أي مقابل أو بسيط شفقة، فكانت دعوة رسول الله ﷺ إلى محاربة العبودية لغير الله وإفراد الله الواحد الأحد بالعبادة حلا لمعاناتهم، هروبا من الشقاء وَسَقْياً لأرواحهم بالوحي الرباني، ناهيك عن فرحهم وهم في نشوة الإحساس بالكرامة والتحرر من قبضة العبودية الاستغلالية والفرح بالقيمة التي أولاهم الإسلام إياها؛ ذلك أن رسول الله ﷺ لمّا دعا إلى تحرير العبيد كان قراره هذا بداية فعلية لمحاربة الطبقية والعنصرية، حيث ساوى بين الناس جميعا، كلٌّ عَبْد لله حر في نفسه ضامن لكرامته.

“وبلال بن رباح رضي الله عنه من “العبيد” الذين أسلموا قبل تحريرهم، إذ كان عبداً لأمية بن خلف، وسمع بدعوة الإسلام فأسلم، فلما علم به أمية عذبه عذابا شديدا، وبلال بن رباح مولى أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه كان أسود مولدا من مواليد بنى جمح كان أبوه رباح حبشيا سبيا وكان ابنه بلال من مولدي السراة، وكانت أمه حمامة سبية، تلقب بسكينة، وأسلم قديما في أول ما دعي رسول اللَّه ﷺ، ويقال: إنه كان الثالث في الإسلام، وكان لأمية بن خلف، وكان أمية بن خلف يخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيلقيه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ويقول: واللَّه لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد، فيقول: أحد أحد، ويضع أمية بن خلف في عنقه حبلا، ويأمر الصبيان فيجرونه، فمر به أبو بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وهو يعذبه، فقال له: يا أمية! أما تتقي اللَّه في هذا المسكين؟ فقال: أنت أفسدته، فأنقذه. وكان بلال تربا لأبي بكر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه، وأحد من دعاه أبو بكر إلى الإسلام، فقال أبو بكر: عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، وهو على دينك، فأعطيك إياه ثمنا لبلال، قال: قد قبلت، فأعطاه ذلك الغلام، وأخذ بلالا فأعتقه.” فصار حرا طليقا مسلما يغمر قلبه الإيمان ومحبا لرسول الله ﷺ، وما كان من رسول الله ﷺ إلا أن أكرمه وقربه منه، وذلك لما لاقى في الإسلام من تعذيب، ولما كان منه من صبر وتجلد وتمسك بدين الإسلام رغم محاربته وتعذيبه، حيث عينه رسول الله ﷺ مؤذنا أولا له، يؤذن للصلاة.

الأذان الذي يعتبر شعارا أساسيا في الإسلام، وركيزة أساسية ينادى بها للصلاة! أعظم ركن في الإسلام، مقام رفيع وتشريف كبير لا يليق به إلا شريف رفيع القدر والمكانة، ورسول الله ﷺ لم ير لهذا المقام أنسب من بلال بن رباح رضي الله عنه، لأنه كان من أوائل الناس تصديقا للنبي ﷺ، وتحمل في سبيل الإسلام أذى كبيرا، فكان العطاء قدر البلاء، ولم ينظر النبي ﷺ -لحظة تعيينه مؤذنا- إلى لونه ولا إلى عرقه ولا إلى شرفه ولا مكانته، بل نظر إلى شرفه بالإسلام ومكانته فيه، وهو بهذا يعطينا درسا إنسانيا فريدا ،أصل من خلاله لنبذ العنصرية والطبقية، معتمدا في ذلك على النهج القرآني في تكريس كرامة الإنسان، يوحي بذلك إلى أن الإسلام يعامل الإنسان لأنه إنسان، دون النظر إلى لونه أو عرقه أو لغته، ضامنا له الكرامة والحرية وكافة الحقوق، وتكليف النبي ﷺ لبلال بمهمة الأذان أحدث في المجتمع الجاهلي قلقا وعجبا؛ إذ الأذان مقام التشريف والسيادة، وبلال عبد حبشي مملوك، فكيف لعبد أن يَشْرُفَ ويسود؟ هذا ما جاء الإسلام ليحققه ويرسخه في المجتمعات كلها، جاء لحماية حقوق الإنسان وكرامته، جاء ليحقق المساواة ويشرف الناس بالتقوى ويحارب العنصرية والطبقية داخل المجتمع ككل، فكانت بداية ذلك يومَ أذن بلال.

1xbet casino siteleri bahis siteleri