شبح القادم
لذلك السكون المفضي إلى العتمة سحره الخاص، ورهبته التي تجعل من خطواتك المترددة على قصرها رحلة طويلة من الترقب القاتل، وفصولا متوالية من مشاعر متخبطة لا تستقر على حال، أحقاً نخشى المستقبل إلى هذا الحد الذي يجعلنا نعيش في هم مقيم وتوجس يبدي لنا كل الممكنات ضربا من الخيال أو ربما الجنون أو الجنوح عن الواقع؟!
أولئك المتسمّرون خلف عتبة الحلم، تكبّلهم قيود الذات، وتغازل مخيلتهم حوريات البحر الميت، يدركون إجابة مفحمة لهذا التساؤل المرير الذي يحز إرادتهم، نعم.. هو الجواب المنطقي لكل تقاعس عن تأدية واجب النفس والحياة، عندما يمتطي الخوف من المستقبل صهوة الإرادة ويطوق كل الإمكانيات الذاتية ويطوح بالمرء بعيدا عن حركة المجتمع والحياة، في مشهد درامي متكرر، وفي بيئات مختلفة ومتباينة.
عندما لا يقبل العقل والفكر قراءة ثانية لتفاصيل الوقائع المختلفة، تتنوع بتنوع الظروف واختلاف الأزمنة والأمكنة، نكون أمام عقدة حقيقية أو مرض عضال أو لنقُل موتاً بطيئاً، يحول دون بلوغ الإنسان مرتبة الحياة، وإن كان بيولوجياً يتمتع بأقصى شروطها ومحدداتها الطبيعية، إلا أن ذلك البعبع الجاثم أمام ناظريه يجعله أشبه بتمثال حجري، ويمنعه من مراكمة التجارب التي تعينه على تخطي مختلف مراحل الإرادة، ومن تم تطويع كل الحواجز والمعيقات التي ينصبها هاجس الخوف أمام طموحاته وأحلامه.
ولعل عصرنا الراهن هو عصر المخاوف والهواجس بامتياز، لما يحمله من صراع محموم ونزاعات ونزعات فردية وجماعية، تصب جميعها في خندق الحفاظ على الذات والإلمام بشروط البقاء والكرامة ولو على حساب الغير، مما يضاعف حجم الضغط النفسي والاجتماعي على الفرد، ما قد يجعله يسلم الراية لهواجسه وأوهامه متعللاً بالقدر والظروف وصعوبة الحياة وعموم البلوى، متخلياً عن مواهبه وقدراته التي وهبه إياها الخالق؛ ليحقق مهمة الاستخلاف في الأرض وليترك أثره وبصمته الخاصة، عنواناً على وجوده وحياته.
وهناك من يحمله هذا الخوف على خوض معارك ضارية وكفاح شبه مسلح، لإدراك أكبر قدر من الضمانات التي تكفل له أكبر قدر من الأمان والاطمئنان، دون أن يحصل عليه طبعاً، ما دامت النفس لا تشبع ولا تستطيع التخلص من عقدة المستقبل، فتجده يحملها أكبر من طاقتها، وقد يودي بها في إحدى معاركه الطاحنة وهو يصارع من أجل وهم “ضمان المستقبل”، وهذا النوع من البشر لا يقدر على تحمل الخسائر مهما كانت بسيطة، بل تتعاظم هواجسه ومخاوفه ويصير أشد حرصاً وجشعاً.
لذلك كان الإيمان بالله وحسن التوكل عليه مع العمل سبيلاً وحيداً لتحقيق التوازن النفسي، وسحق كل المخاوف والهواجس التي تكبل الإرادة أو تدفع النفس لورود المهالك، ما يجعل الإنسان واثق الخطى، واضح الرؤية، صافي الذهن، وقوي الإدراك لحقائق نفسه ومستوى قدراته الذاتية، فيتمكن من الاستفادة من طاقاته ويصرفها التصريف الصحيح والسليم، الذي يكفل له مواجهة كل التحديات والصعاب بهمة ثابتة ونفسية مطمئنة، غير منشغل بما تخبئه له الأيام وتخفيه أستار الغيب.