زمن الوباء محن ومنح

لا شك أن الحياة التي عشناها كانت تتكرر كل يوم لتجعلنا كالشخصيات التي تؤدي أدوارا مختلفة في زمن فرض عليها أن تتبع نفس السيناريو الذي اعتادت عليه ودأبت على مواكبته، نفس الأحداث هي التي تعاش كل يوم تقريبا، كل يسير في الطريق التي رسمها القدر، والكاتب هنا يجعلنا في تقوقع داخل فضاء يتسم بالهدوء، والأحداث فيه بعيدة كل البعد عن الاضطراب والتوتر. تماما كالبدايات التي نقرأها في صفحات أغلب الروايات والقصص والحكايات، لا بد من ذلك الجزء الذي يمهد الطريق للدخول في جوهر الموضوع وصلبه الذي تدور حوله كل الأحداث والشخصيات، والتي تساهم في تطورها واستمرارها وتغيرها حسب المتن الحكائي.

إن زمن الحكي يبدأ قبل ظهور الحدث الذي سيغير كل شيء، ويقلب الموازين المعتادة ويغير كل المخططات لتدخل تلك الشخصيات في دوامة أحداث لم يسبق لهم أن عاشوها أو رأوا مثلها، أحداث ستفاجئ الشخصيات التي تؤديها. يبدأ الحكي من زمن يعرف بالعيش المستقر والهادئ الذي لا يكدر صفوه عائق أو عراقيل من عراقيل الحياة، الكل يمضي في طريقه الكل يستيقظ نهارا ليبحث عن هدفه والليل مسكنه أو مقبرة أحلامه.

لكن، حين تسافر الشمس من المشرق وينتهي بها المطاف في المغرب تنتهي حكاية النهار التي تتلخص في العمل والنشاط والحركة المستمرة والسعي في الأرض، كل يبحث عن هدفه في ذلك اليوم، صخب وضجيج وضوضاء النهار ملاذ للبحث عن الذات الضائعة بين دروب الحياة، ملاذ لصنع ذات لا تتيه ولا تضيع، ذات إذا ما هاجمت العواصف ظلت ثابتة كغصن في شجرة تضربه الرياح من الجانبين، تراه يتمايل لكنه لا ينكسر أو يسقط، هي الذات التي يبحث عنها الجميع وسط حياة التيه والضياع.

أما الليل فهو مسكن لمن ظل يسعى بالنهار والنجاة من ذلك الضجيج وتلك الضوضاء المرهقة، الليل مكان للهدوء والسكينة والطمأنينة والظلام الدامس، الشمس قد ذهبت بنورها والناس تركوا أصواتهم في سجون الصمت واستسلموا لهدوء الليل فرارا من تعب النهار وشقائه وبؤسه، الليل مقبرة للأحياء وسجن لمن أتعبتهم الحرية الفارغة من معناها الأصلي.

لكن كل هذه الأمور ليست سوى أحداث عادية يعيشها كل شخص في الحياة، لنقل ربما يمر بمشاكل لا حصر لها وبامتحانات واختبارات لا بد أن يجتازها ليثبت ذاته ويحقق مبتغاه هذا قدر كل شخص في مسيرته. في هذا العالم المليء بالظواهر العجيبة ترى الكائن الوحيد الذي تجده في تقلب دائم وتغير مستمر، تجد السعيد والتعيس والحزين والمكتئب كما تجد من يظهر على محياه الفرح والقلق، هكذا هي أحوال الدنيا.

هنا لا زلنا نتحدث عن الشق المتعلق بالهدوء والأحداث غير المتوترة، لكن سندخل في محطة أخرى من المحطات التي سافر بنا إليها قطار الحياة، محطة سنجد فيها ضيفا لم يكن مجيئه متوقعا مطلقا. إنه ضيف لا كالضيوف زيارته ترهق من يستضيفه، إنه الوباء الذي جعل العالم يسير في منحى آخر ليصبح من المفروض على الشخصيات أن تؤدي أدورا ليست كالأدوار التي عهدتها أو شهدتها مسبقا.

مقالات مرتبطة

هنا ستبدأ خلخلة الأحداث وتطورها، حيث سيخوض العالم أكبر نزاع مع الوباء، هذا الأخير ينتشر والإنسان يسارع إلى خطو خطوات للحد من خطورته وحدته، بدء الأمر بارتداء الأقنعة وبعد المسافات والبدء في التخلي عن الحياة المعتادة. إنها بداية التحول الذي لم يكن في الحسبان المدارس والجامعات والمطاعم والمقاهي والملاهي والملاعب الرياضية وكل الفضاءات المفتوحة ستشل حركتها لتعرف صمتا لم تعهده من قبل، الفراغ يعم المكان والزمان، الطرقات تشتاق لصوت محركات السيارات والشوارع تتوق لرؤية الازدحام الذي كان متواجدا بالأمس فيها.

لقد دخلنا في زمن سجن فيه الجميع بهدف الحماية، إنها محن الوباء لكن خلف ذلك العديد من المنح المتمثلة في إدراك الكثير من الفوائد التي لا حصر لها. لقد أدرك الجميع أهمية الدفء الأسري وقيمة كل فرد داخل الأسرة كما تفرغ الآباء للاهتمام بأبنائهم بعد أن سجنهم الوباء بين أربعة جدران. ليس هذا فقط بل اكتشاف قيمة الوقت الذي كان يتلاشى في الملاهي والمقاهي وأمور أخرى لا نفع لها، وتفرغ العديد لإنجاز ما يهواه لكن محن الوباء كانت أقسى نوعا ما، فقد همشت شريحة مهمة من الناس الذين فقدوا مصدر عيشهم وقوت يومهم وصار الوباء بالنسبة لهم هو الفقر وقلة الحاجة.

كان الوباء من المنح التي حظي بها البعض، وفي نفس الوقت صار من المحن التي تثقل كاهل الأسر الضعيفة والمهمشة الفاقدة لمصدر عيشها تعيش اليوم مثقلة بهموم الأيام المقبلة فترى الكل يسأل متى تنفرج هذه الكربة؟ أو سنبقى محاصرين بين أربعة جدران لا ندري إلى أين ومتى النهاية؟

أسئلة يطرحها العديد من الناس ليخففوا على أنفسهم من هول الصدمة التي لحقت بهم جراء انقلاب الموازين بين عشية وضحاها، تسمع أحيانا نداءات وأحاديث تدور حول الخروج للبحث عن العمل ولو على حساب التضحية بالأرواح، الأهم ألا تغرق السفينة من شدة قلة الحاجة، لكن رغم كل هذا تأتي مشيئة الله عز وجل لتغير كل المخططات ليتفاجأ الجميع بحكمته المطلقة التي لا نهاية لها.

لكن ما يجعلنا متفائلين هو التفكير دوما في الاقتراب من نهاية هذه المأساة التي جعلت العالم ينهار؛ فالكل يترقب وينتظر متى ينخفض منحنى تصاعد انتشار الوباء وقلة الحالات المصابة وتوفر الحل النهائي لطرد هذا الفيروس، هذا السيناريو كان يتحدث عنه الجميع في فترة كنا لا زلنا نتعرف على هذا الضيف، لكن مع مرور الوقت واستمرار الوضع على حاله انتقلنا من نظرية التخلص منه إلى محاولة التعايش معه.

صارت الحياة مع الوباء جد منظمة ومضبوطة ودقيقة للغاية، نخرج وندخل في وقت محدد، المعقمات والأقنعة والتباعد وتجنب التجمعات من الأمور التي وجب الانضباط عليها والاستمرار في العيش مع نهجها. كل هذه الأحداث جعلت العالم بأسره يعيش حياة من نوع آخر حياة لم تكن في الحسبان، لكن ما اكتسبه الإنسان في هذه الحياة كان مزيجا من المحن والمنح التي دربت البشرية على كيفية العيش مع هذا الضيف الذي قلب كل التوازنات.

1xbet casino siteleri bahis siteleri