الكهل الحكيم

وأنا جالس في سريري أحتسي قهوتي، أتخذ من الصمت والظلمة مؤنسين لوحشتي، أجول في منصات التواصل الاجتماعية واحدة تلفظني إلى أخرى، شارد التفكير أمرر الصفحات دون التركيز في محتواها في غالب الأحيان، ففي نفسي من الهموم ما يثقلها ويجعلها تتوق للبهجة والسرور، فليس لمآسي الناس ومعاناتهم متسع -في هذه الفترة على الأقل- في فؤادي المكلوم.

كنت غارقا حتى الرقبة في بحر تفكيري حين تذكرت ما قاله لي أحد الرجال الذين جمعتني بهم الأقدار صدفة، وربما لحكمة لا يعلمها إلا مدبر الأمور ومسيرها، فقد كان لقائي بهذا الرجل في يوم من أيام شهر دجنبر الباردة وبالضبط في مدينة مرتيل قبل بضع سنوات، أذكر أن ضيقا ألمّ بنفسي فلم أجد للفرار من سيفه القاتل سبيلا سوى المشي باتجاه الشاطئ لعل روحي تصفو وتنشرح، ولما وصلت إلى وجهتي المنشودة، شدّني إليه منظر أحجار متناثرة في الجانب الأيمن من شاطئ المدينة، مكان يلوذ إليه عشاق الصيد بالقصبة، ومن يحاورون أمواج البحر حين تضيق بهم السبل، فتوجهت لذلك المكان بلهفة عاشق قتله الشوق إلى حبيبته. ولما وصلت تهاويت بجسدي النحيل الذي يحمل روحي المثقلة بالهموم على صخرة، سرحت بنظري في الأفق حيث تمتزج زرقة الماء بزرقة السماء فتزيد المشهد حسنا وبهاء.

حاولت أن أترك ورائي كل ما يبث الحزن في نفسي ويفسد عليّ استمتاعي بالمنظر، لكني لم أنجح وفي ذات الآن لم أفشل، فقد كان الوضع بين بين، فنحن لا نفشل ما دمنا نحاول، وأنا على هذه الحال حتى تسلل إلى أذني فجأة وقع خطوات يرتفع صوته في كل مرة وأخرى، مما جعلني أحدس أن أحدا يتجه صوبي، استدرت فإذا به كهل يحمل بين أنامله حقيبة، متوسط القامة، شاحب السحنة، وجهه موسوم بندوب توثق لحروب دامية خاضها وتجارب حياتية عاشها، يرتدي جلبابا رثا يدل على شدة فقره وعوزه، تعتلي وجهه لحية كثيفة يسودها البياض أكثر من السواد، لوّح بيده فحياني بتحية السلام، اطمأننت له، فرددت عليه بأحسن منها احتراما له:

-وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، مرحبا عمي الحاج.
جلس بجانبي على صخرة مسطحة فقال مبتسما رغم ملامحه التي تشي بالكثير من الحزن والانكسار:
-كيف حالك يا بني؟
– حمدا لله، ماذا عنك يا عماه؟

كانت رغبتي جامحة في معرفة قصته وما الذي ساقه لهذا المكان، وبالضبط ما الذي دفعه للجلوس بجانب فتى يصغره سنا بفرق عشرات من السنين، خجلت من سؤالي له وخشيت أن يأخذ في فهمه منحى آخر غير قصدي، ففضلت أن أتريث وانتظر مبادرة منه في فتح باب الحديث، وما هي إلا لحظات أقام الصمت فيها فطرده العجوز قائلا:

-أراك صامتا، مستغرقا في التفكير، ما بك يا بني؟ وما الذي أتى بك إلى هنا؟
أجبته وعيناي تنظر باتجاه جبل كان بعيدا قائما أمامنا وعلى قمته بعض البياض حسبته ثلجا، كان سؤاله وكأنه وضع يده على جرح غائر في نفسي، سؤال لطالما طرحته على نفسي وأجبت عنه مئات المرات، اغرورقت عيناي بالدموع فانسلت عبرات على خدي ما كنت لأكبحها أمام رجل عجوز اطمأنت له روحي:
-وما الصمت إلا تعبير مختلف وأكثر بلاغة عن مكنونات الروح من الكلام، وما التفكير إلا محاولة لإيجاد منفذ للإفلات من براثن الكآبة واليأس التي يخلفها ذاك الصمت الذي ينهش روحي كغزال بين مخالب فهد جائع، أمّا عن الذي أتى بي إلى هنا فأظن أنك الآن تعرف يا عماه.
نظر إليّ والحزن يخيم على محياه فقال بنبرة من يبكي ويتحدث في ذات الآن، كانت كلماته متقطعة، جعلها كبر سنه وحزنه عليّ وربما حتى على نفسه صعبة الفهم:
-هون عليك يا بني، ما ظننتك بهذا القدر من الأسى، فأنت على الأقل ما زلت في ربيع عمرك، وما زالت سبل الحياة مشرعة أمامك، فإن سلكت أحدها ولم يوصلك سلكت غيره وهكذا حتى تصل إلى مقصدك.
نظرت إلى عينيه مباشرة والدموع ما زالت تنهمر من مقلتيّ بوتيرة أبطأ فأجبته:
-نعم يا عماه، فما انقطعت عن الأمل يوما، ولكن أخبرني أيمكن إخماد بركان مستعر يا عماه؟ كذلك هي النفس حين تبلغ ذروة شجنها وتحفّها الأتراح من كل جانب.

1xbet casino siteleri bahis siteleri