تعب الصغر راحة في الكبر

جملة صادفتها لأول مرة على جدار المدرسة التي احتضنتني في سنوات دراستي الابتدائية، وصدقتها ببصري لا ببصيرتي، وقررت أن أحملها على راحة يدي لترافقني فيما سيأتي من مسيرتي الدراسية وأجعل منها عبارة قدوة، فخيل إلي حينها أنني يجب علي أن أحرم نفسي من الراحة وعيناي من النوم وأَجْدِف بيداي وبكل ما آتاني الله من قوة حتى أبلغ بَرَّ الراحة عندما يكون جسدي قد أكل الدهر منه وشرب.

ما هي إلا أعوام قليلة مضت حتى بدأت العبارة تفقد بعض الكلمات وتكتسب أخرى جديدة ليرافق هذا التغيير تغيرات في المعنى كذلك، فتعب الصغر وإرهاق كاهل الجسد والروح بجبال التعب والتفكير في المستقبل لن يجعلك بالضرورة محاطا بالراحة بعد هرمك، قد يلقي بك في غيابات السقم وقد تمضي فترة شيخوختك وأنت تتحسر على شباب لن يعود يوما، شباب مضى وفنى ولن يعود.

فبعد أن أمضيتُ ما تيسر من تجارب بدأت أفهم أن الحياة وسطية واعتدال في كل شيء وفي التعب حتى، فنحن لا ندري هل سيكون العمر سخيا ونعيش حياة كاملة بمراحلها الثلاث أم سيكون حبله قصيرا ونسافر السفر الأخير في عمر مبكر، فلا يجدر أن نجعل بداية هذا العمر المجهول النهاية في مشقة دائمة ليل نهار وفي تعب وضيق ونُوهِمه بنهاية على ضفاف نهر رقراق بينما لا يعلم غيب النهاية غير الله. بدأت أرى أن الأيام يجب أن تعاش بتحقيق العدل بين التعب والراحة أن تتعب وتعمل من أجلك ومن أجل نفسك ومن أجل بصمتك التي ستترك على هذه الأرض الفانية، وأن تترك لك حيزا من الراحة تشعر فيه أنك إنسان لك وعليك، أن ترتاح بقدر ما تتعب أو أقل مما تتعب، لا يهم الكم بقدر ما يهم كيف سترتاح، فكل منا يعلم ما يريح عقله وجسده وتفكيره.

سيقيك عيش حياة متوازنة شر السقوط يوما فاقدا القدرة على إكمال ما تبقى من عمرك، لم نجتز الامتحان الأكبر بعد لنعيش العسر الدائم بين دركات جهنم أو لنعيش اليسر الدائم بين درجات الجنة، نحن على أرض العاجلة نجد ونجتهد للوصول إلى نجاح أول وخوض نفس التجربة للوصول إلى النجاح الثاني وهكذا نستمر في سلسلة متتالية من النجاحات المستمرة التي قد يشوبها الفشل بين الفينة والأخرى، فليس هناك نجاح واحد دائم لنقف عنده ولا نطلب المزيد.

نلبي أيضا نداء العمل كعبادة ونداء العمل من أجل العيش، فمرحلة العمل التي قد تأتي غالبا بعد سنوات من الدراسة الطويلة وسهر الليالي والسعي للتحصيل الجيد من أجل صعود سلم أعظم المهن يجب أن تكون هي الأخرى مختارة بعناية، أن ينتقي المرء المهنة التي تثير إعجابه وتحفز أفكاره ويكون تعبها وإن كان قاسيا سَكينة وإلهاما بالنسبة له وطريقا آخر للشعور بالراحة، فكل شيء يهون ويضمحل في حضرة ما نحب وما يلهمنا؛ فالاختيار الصائب هنا قد يُحَول تعب عملك مباشرة إلى راحة نفسية ويبعد عنك التذمر والإرهاق اليومي الذي يصاحب كل شخص غير راض تمام الرضا على ما يقوم به، وإن كان عكس هذا ووقع في فخ الاختيار الخطأ والعمل في أي مهنة فقط من أجل الكسب المادي فهذا سبيل آخر نحو التعب النفسي والجسدي وسبيل نحو السعادة المؤجلة إلى تاريخ غير محدد.

ما دمنا على أرض الله فبحر الاختيارات أمامك فيه من الجيد والمفيد والمريح بقدر ما فيه من التعيس والمتعب، فلا تجعل صنارتك تعتاد على صيد الثانية فقط وتنسى أن لك الحق وكل الحق في اختيار الأولى أيضا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri