هل كانت الجائحة مانحة؟

مِن أجمل الأشياء أن نزرع الأمل في اللحظات الصعبة والقاسية، وأن نُبادر إلى الإسهام في تجاوز المحن والتحديات بقدر الإمكان، وأن نشعل شمعةً تُنير الطريق للسالكين في الأيام الكالحة. وأجمل من ذلك كله أن يُقابل جهدُنا بالاعتراف والتقدير لكي نزداد قوةً وإرادة للمواصلة والاستمرار. ولهذا السبب الأخير، انبثقت فكرة “جائزة أمل” لدى القائمين عليها، لتكريم ومكافأة المبادرين، الذين ساهموا بمبادراتهم ومشاريعهم وبرامجهم وحملاتهم التطوعية، لمواجهة العواقب الصحية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن فيروس كورونا. وهي -ولا شك- بدورها مبادرة جميلة تستحق كل التشجيع والتنويه؛ جاءت في وقت أعتقد أنه مثالي للغاية؛ حيث نعاني من تهميش الكفاءات الوطنية التي تشتغل في الظل، ولم يُوفَّر لها هامش كافٍ من الأضواء حتى يتم التعريف بجهودها ودورها الفعال في المجتمع المدني.
وليس سرّاً أن المرء عندنا -ومن أسف- يحتاج في كثير من الأحيان إلى أن يُلتفت إليه في الخارج ويُعرَّف به، لكي يُلتفت إليه على مستوى إعلامنا الداخلي. وتلك من كبريات مشاكلنا التي تُنبئ عن خلل في ثقافة الاعتراف لدينا.
التكريم هو اعتراف، هو وقود لا ينفد يُقدَّم للشخص لكي يواصل المسير والتقدم. وكم تغيرت حياة أشخاص بكاملها بسبب جائزة قُدمت لهم اعترافا وعرفانا بجميلهم وبديع صنيعهم. شخصيا، لا أنسى كيف أن جائزة رمزية للغاية مُنحت لي سنة 2010 على أحسن مقال في الويب المغربي دفعتني دفعاً إلى الاهتمام بالكتابة، وتخصيص وقتٍ أكبر لها، والتفكير الجدي فيها. وما أظنني لولا تلك الجائزة كنتُ سأكتب هذا المقال أو غيره، قبله أو بعده. وتلكم مجرد جائزة رمزية، فما الظن حين يتعلق الأمر بجوائز رمزية من جهة، وفيها مكافآت مادية محترمة من جهة ثانية؟ لا شك أنها ستكون أكثر نفعاً وتأثيرا.
وفي هذا السياق، نظم القائمون على “جائزة أمل” حفلا تكريميا، دعَوْا إليه شخصيات عدة من مجالات وتخصصات مختلفة، وكنت من بين هؤلاء المدعويين، وخاصة من الذين طُلب منهم إلقاء مداخلة بهذه المناسبة. وما كان لي أن أرفض مثل هذه الدعوة، لاسيما وأنها جاءت من صديق عزيز، أكن له من التقدير والمحبة ما لا تسعني العبارة لوصفه. وقد تحدثت في هذه المداخلة عن مجموعة من الأفكار، حاولتُ أن أضمنها هذا المقال.
طبعا، عن ماذا يمكننا أن نتحدث في لقاءات زمن الجائحة، إلا عن الجائحة. وإذا كان هناك شيء ما يميز الجائحة الحالية فهو أنها جاءت في زمن تطور فيه الطب والتقنيات المستعملة فيه بشكل كبير جدا، بالمقارنة مع جوائح شبيهة لها في الماضي. فإذا كانت الجائحة الإسبانية في القرن الماضي قد قتلت خمسة وسبعين مليون إنسان، فليس لأنها كانت وباء خطيرا للغاية، بل أساسا لأن الطب والمعدات الطبية كانت ضعيفة، حيث لم تكن هناك قاعات للإنعاش، والمضادات الحيوية لم يتم اكتشافها بعدُ، فكان الناس يموتون بأبسط الأسباب، كالتعفنات الثانوية.
إن هذا التطور الذي عرفه ميدان الطب هو الذي أسهم في هذه الطفرة التي عرفها إيجاد اللقاح للفيروس الحالي، إذ نشهد أسرع لقاح تم اكتشافه في تاريخ البشرية. ورغم كل الملاحظات التي يمكن أن نسجلها على عملية اكتشاف اللقاحات المضادة لفيروس كورونا كوفيد-19، فإنه لا يمكن أن نغفل أنه بذلت جهود كبيرة للغاية من أجل تسريع إيجاده؛ لأن الحاجة كانت ملحة بشكل استثنائي. وقد عملت منظمة الصحة العالمية على توحيد الجهود من أجل هذه الغاية، من خلال برنامج [سوليداريتي] الذي يهدف إلى العمل على إيجاد وإتاحة لقاحات مضادة لكوفيد-19 على الصعيد العالمي بشكل سريع وتوزيعها بشكل منصف، وهو أيضا أمر غير مسبوق في تاريخ البشرية، بغض النظر عن كيف سيتم توزيع اللقاحات على الدول، والمبادئ التي ستحكم هذا التوزيع على المستوى الواقعي.
ومما يميز الإنسان أنه يَقدر على التفلسف في أوجاعه، ومحاولته استنباط الدروس وتقويم أخطائه. وجائحة بحجم جائحة كورونا لا يُمكن إلا أن تدعونا لتعميق التفكير في نمط حياتنا المعاصرة؛ أعني الحياة في زمن العولمة. حيث أسهمت طبيعتها ووتيرها في الانتشار المتسارع لهذا الفيروس. وكلنا يعلم أن هذا الفيروس ظهر في الصين في المرة الأولى، ولم يكد يمضي على ظهوره شهران حتى بدأ في الانتشار في كل بقاع العالم.
ومن شدة الصدمة التي أصابت العالم بانتشار هذا الفيروس، فقد كان التفكير كله منصبا على: كيف الخروج من هذه الأزمة والعودة إلى الحياة الطبيعية؟ لتبدأ رحلة البحث عن اللقاح المنشود. ولم يحظ السؤال الكبير: “لماذا ظهر فيروس كورونا؟” بالقدر الكافي من العناية والاهتمام. لأن التساؤل دائما باستعمال أداة “لماذا” أثناء النظر في الظواهر هو إحالة على التعليل وكيفية التشكّل والنشأة. ومثل هذا السؤال في سياقٍ مثل سياق الجائحة، ربما يكون غير مرغوب فيه؛ لأن الجواب عنه قد يحمل إدانةً قوية للإنسان الحديث بكل تفاصيل حياته، وهو الذي أصبح ولوعاً بالشذوذ ومخالفة القوانين الطبيعية الثابتة لعصور من الزمن.
هذا الإنسان الذي أُصيب بلوثة “السيولة” كما نظر لها زيجمونت باون، حتى أصبح مستعدا لقبول أي شيء، مهما كان غريبا أو شاذا أو قبيحا. هذا الإنسان الذي أصبح يتطفل على أشياء لا تنتمي إليه وإلى طبيعته. وهل من غرابة أشد من كون إبقاء الأشياء على طبيعتها وأصلها أصبح مطلبا ملحا وغاية منشودة؟ ذلك أنه هو السبيل الوحيد للتقليل من ظهور مثل هذه الفيروسات والأمراض. ولأن الشذوذ في كل شيء أصبح موضة لإنسان هذا العصر، فقد صار القلق من ظهور المزيد من الأوبئة والجوائح مستقبلا بسبب هذا الاعتداء على الطبيعة من قبل الإنسان أمراً مبرراً ينبغي أن يُلفت إليه المفكرون والعلماء أنظار العالم. وهم يفعلون ذلك على كل حال، لكن من أين يمكن سماعُ صوتهم في عالمٍ ينبذ صوت الحكمة والتعقل والأصالة.
في زمن الجائحة يصعب التفكير بشكل واضح، لأن شعور الحاجة إلى البقاء يغدو مسيطرا على كل المشاعر الأخرى. والإنسان حين يشعر بتهديد وجودي لحياته من الطبيعي أن يضطرب. لكن لا محيد لنا من أن نفكر، على الرغم من كل الظروف المحيطة بنا. لا بد أن نتأمل في هذا الذي جرى ويجري لنا. ولذلك أريد أن أسترجع معكم لحظات من ذلك الوقت العصيب الذي عشناه في أواخر شهر مارس وبداية شهر أبريل من العام المنصرم.
في الواقع، كنت ككل الناس، لم أفكر في يوم من الأيام أنه سيأتي علينا زمانٌ لا يُغادر فيه أحد منزله إلا برخصة من السلطة المحلية. ولكنه حصل فعلا، تخرج إلى الشارع العام فلا تجد إلا رجل الأمن الذي يراقب المخالفين لتعليمات السلطات المحلية. كانت حالةً غريبة للغاية، تبعث لدى المرء شعورا بالرهبة. كنتُ أخرج من منزلي متوجها إلى عيادتي فأجد الشوارع كلها فارغة من ساكنيها. لا أحد يغدو أو يروح سوى الأطباء ورجال الأمن. في الواقع، لا يمكن للمرء إلا أن يتملكه بعض الارتباك والخوف في تلك الظروف، نظرا لذلك الجو السائد حينها. وأنا أعلم أن من بين الأطباء مَـن فكّر في بعض اللحظات أن يُغلق باب عيادته ويلتزم منزله هو أيضا كسائر الناس حفظا لحياته، لولا شيء من ضمير مهني وواجب إنساني كان يدفعه إلى أن يضحي بنفسه، ويستسلم للأمر الواقع، كون الأقدار أوجدته في هذه الثغرة التي يرابط عليها في هذه الأزمة الصحية العالمية الخطيرة.
وقد كان ذلك الخوف مبررا في ذلك الوقت، فقد كان الفيروس في ذروته في بلدان كثيرة كإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وأمريكا، حيث الوفيات بالمئات والآلاف. ويزيد الأمور رهبةً، أن الطبيب حين يدخل إلى المصحة لإجراء عملية مستعجلة، يتوجب عليه أن يرتدي أكثر من ثلاث كمامات، بالإضافة إلى واقٍ، وكأنه سيسافر إلى الفضاء. فضلا عن أن الفيروس في ذلك الوقت ما يزال محتفظا بكامل أسراره، بحيث كانت المواجهة مع عدو مجهول لا يُعرف على وجه الدقة.
ولكن الأزمات دائما كما تكون تحديا صعبا، فإنها تكشف عن جوانب أخرى إيجابية؛ فالشر في هذا الكون غير متمحِّض، بل في كل أمر سيء ثمةَ أمور إيجابية، يمكن الاستفادة منها. ففي ظل هذه المشاعر من الرهبة والخوف من المجهول، لاحظت أنه قد وقع تآخٍ بين الأطباء ورجال الأمن، كونهم جميعا كانوا في الصفوف الأمامية لمواجهة هذه الجائحة. صحيح أنني لا أعتبر نفسي كنت في الصفوف الأمامية في هذه الجائحة، ولم يحصُل لي هذا الشرف، كون تخصصي في الجراحة الباطنية، وكان القرار حينها أن لا نقوم إلا بالعمليات الجراحية المستعجلة. وأما الأطباء الذين كانوا في الصفوف الأمامية حقا فهم أطباء الإنعاش والتخدير والمستعجلات.
في ذلك الوقت العصيب، كان الطبيب في أمسّ الحاجة إلى الدعم والتشجيع والتحفيز، إذ كنا نخرج إلى العمل ونحن متيقنون أننا سنصاب بالفيروس ولا بد في يوم من الأيام. ولا بد أن أذكر مجددا أن الفيروس في هذا الوقت كان جديدا، ولا نعرف عنه أي شيء. والطبيب بشر في النهاية، خوفه خوف بشري طبيعي. وفي ظل تلك المشاعر، كانت المبادرات المجتمعية الكثيرة، والتضامن والتآخي الذي ساد بين كل فئات الموطنين في هذا الوقت عوامل مشجعة للأطباء للتضحية وبذل المزيد من الجهود للتغلب على هذه الجائحة.
وعلى سبيل المثال، فقد تلقيت، شخصيا، عشرات الرسائل من أشخاص يعرضون عليّ منازلهم الفارغة لأقطن فيها حتى تمر هذه الجائحة، وذلك لكي لا أعود إلى أبنائي كل يوم، وربما أكون حاملا للفيروس دون أن أدري، فأعاديهم. وذلك الحس التضامني أسهم في استشعار الأطباء بقيمة العمل الذي يقومون، وجعلهم أكثر حرصا على أداء واجبهم. وفي الحقيقة، لا يمكنني إلا أن أعتبر تلك الأوقات من أجمل اللحظات التي عشتها في مسيرتي المهنية. نعم، كان الطبيب يقوم بعمله فقط، لم يتغير الأمر جذريا عما عهده في سابق مساره المهني، ولكن التقدير الذي كان يستشعره هو الشيء المختلف. وكان شعوراً جميلا لـمّا تعرض بطاقتك المهنية على رجل الأمن فيحييك ثم يفسح لك الطريق للمرور.
هذا التآزر الكبير الذي عرفه المجتمع المغربي بين جميع مكوناته وطبقاته الاجتماعية ذكّرني بمقالة لأحد أصدقائي الذين ينشطون في مجال العمل الخيري، كان يرددها دائما، وهي أن “المجتمع المغربي مجتمع عظيم، الخير في أفراده شيء أصيل ومتأصل”. ربما لم أكن أدرك بشكل عميق ما كان يقصده، أو لم أستشعره كما يجب. لكن هذه الجائحة أبانت حقا عن هذا المعدن النفيس لدى المغاربة. وقد تعلمتُ بالتجربة والاستقراء أن المغربي، رغم كل شيء، يحب وطنه، وإن كان الأمر في بعض الحالات لا يخلو من انفصام، حيث لا يتردد المغربي في إبداء رغبته في الهجرة من وطنه، ثم أثناء الشدة تجده يشمر عن ساعد الجد، ويقوم بكل ما يستطيع من أجل المساعدة والتآزر والتضامن، ببطولية وتفانٍ عجيبيْن، ومن بطون الأهوال تولد الرجال.
إن تلك الأزمة كشفت عن المعدن الأصيل لهذا الشعب العظيم. وقد كنتُ معجبا غاية الإعجاب بجهود الكثير من المؤثرين المغاربة على مواقع التواصل الاجتماعي في التوعية والتحسيس بمخاطر الوباء، وأعتبر أنهم قد قاموا، وهم أفراد، بجهود لا تقوم بها إلا المؤسسات، دون أن يتلقوا على ذلك أي مقابل، وإنما كانوا يقومون بما يقومون به حبا وإيمانا بأن هذا الوطن يستحق منا الأفضل، وأن هذا الشعب أهل لكل خير وإكرام. وقد كنا بحاجة إلى جهود هؤلاء، لأن جزءا كبيرا من المشكلة كانت في غياب الوعي لدى فئة كبيرة من الناس، فكان يجب توعية من لم يكن واعيا؛ كانت المعركة معركتين: معركة مع الجهل والعناد، ومعركة مع الفيروس.
كنا في بداية عامٍ جديدٍ، وما زال الجميع يفكر في مخططاته السنوية كيف سينفدها، بما في ذلك الحكومة التي بدأت للتو سنةً ماليةً جديدةً بعد صدور قانون المالية السنوي. كانت كل الموارد والنفقات قد قُدّرت، وبدأ توزيع النفقات على القطاعات. وكان قطاع الصحة يثير الضجة، كالعادة دائما، أثناء المناقشة لقانون المالية في البرلمان. فرغم أن الجميع يعرف أنه قطاع هش وضعيف، وأن الميزانية التي ترصد له ميزانية هشة وفقيرة، ولا يمكن أن تلبي الحاجيات القائمة في القطاع، إلا أن الميزانية هي ذاتها، لا تتغير رغم مرور السنوات إلا بتغييرات طفيفة، ليبقى القطاع كما هو، دون أن يشهد أي تطور يمكن أن يكون ملحوظا. ولعله أكثر القطاعات بطئا في التطور والتقدم بالمقارنة مع باقي القطاعات الأخرى. ولْنقارنه مثلا فقط مع قطاع التجهيز والنقل!
وإذا بحثنا عن الأسباب التي تجعل هذا القطاع الحيوي مهملا بهذه الطريقة، فقد نجد بعضها في فكرة سائدة لدى الكثيرين، بما فيهم الطبقة السياسية، وهي أن هذا القطاع قطاع مكلف وغير منتج، فهو يأخذ ولا يعطي. وهذا دون أن ننسى أن المغرب في القطاع الصحي يستورد كل شيء تقريبا، من أسرة الإنعاش وآلات التنفس الصناعية إلى أقل أداة من أدوات عمل الطبيب.
وبالتفكير البسيط الساذج، قد يبدو فعلا أن القطاع الصحي ليس قطاعا منتجا، ولكنه عند التأمل نجد أنه صمام أمان المجتمع؛ لأن التوفر على منظومة صحية قوية أصبح شرطا للعيش الآمن، لأن الإنسان معرض في كل وقت وحين للمرض والتعرض للحوادث. وإذا أمعنّا النظر مثلا في طبيعة الأشخاص الذين أصبحوا يهاجرون إلى بلدان أخرى ككندا وأستراليا أو غيرهما، ونقّبنا عن العوامل التي تدفع هؤلاء للهجرة، سنكتشف أن بواعث الهجرة لديهم لم تعد هي البحث عن العمل وحده كما كان الأمر عليه في السبعينات والثمانينات؛ لأن فئة كبيرة من هؤلاء المهاجرين هم أناس ميسورون، بإمكانهم أن يضمنوا دخلا شهريا محترما في بلدهم، يضمن لهم العيش بشكل مريح، دون تكلف مشاق السفر إلى بلد آخر.
إن الهجرة إلى بلدان أخرى أصبحت بواعثها من نوعٍ آخر، هي البحث عن الأمان الصحي. يخاف الإنسان أن يُصيبه مرض معين، أو يمرض له أحد أبنائه فلا يجد أين يُداويهم ويعالجهم، أو أن لا يقدر على ذلك بسبب التكلفة الباهظة للعلاج في المغرب؛ فأصبح يفكر في الهجرة من أجل التأمين على حياته وحياة أبنائه ومستقبلهم. وأتوقع أن فئة كبيرة من هؤلاء يتوفرون على موارد مالية في المغرب تؤهلهم لأن يؤسسوا مشاريع مربحة، وبعضهم يتوفر على مؤهلات علمية وشخصية تجعله موفور الحظوظ للحصول على عمل جيد في المغرب، لكنهم مع ذلك يهاجرون.
ولا أتوقع أن يحصل مثل هذا الأمر في بلدان أخرى تتوفر على منظومة صحية جيدة، لأن الإنسان مرتبط بالأرض طبيعةً وفطرةً. لِنستحضر مثلا عالم الفيروسات المغربي منصف السلاوي، وهو نموذج جيد في هذا السياق. فهل كان صعبا على السلاوي أن يضمن لنفسه عملا مربحا في المغرب، أو أن يؤسس مشروعا علميا يكتسب من خلاله ثروة مهمة ستجعله يعيش بشكل مريح للغاية؟ قطعا، الإجابة بالنفي. ومثل هذه الطاقات، ما كانت لتفكر في الهجرة لو أنها وجدت بيئة آمنة وصالحة للعمل والابتكار.
إن هذا الإنسان الذي نستثمر في تعليمه وتكوينه حتى يحصل على أعلى الدرجات والشواهد العلمية ثم يهاجر إلى بلد آخر هو خسارة باهظة، والحفاظ عليه والاستفادة منه هو ربح كبير، ولا بد أن نفكر في البواعث التي تدفعه إلى التفكير في الهجرة. والأمن الصحي اليوم هو أحد هذه البواعث الكبرى، لذلك ليس ضائعا ذلك المال الذي ننفقه في تأهيل هذا القطاع وتطويره. وهو قطاع مؤثر في كل القطاعات الأخرى، مهما بدا أنه قطاع غير منتج. والحياة والصحة الجيدة شرطان وجوديان لكل إنتاجية؛ فلن يُنتج الموتى ولا المرضى على فراش المرض. وقد آن الأوان أن تتغير السياسات العمومية وطرق التقييم ودراسات الجدوى المتعلقة بهذا القطاع.
1xbet casino siteleri bahis siteleri